ما الذي يقنع باحثاً باختيار موضوع دون غيره؟ اقتناعه، ربما، بأنه يقدّم جديداً في الموضوع الذي يعالجه، أو اختلافه مع آخرين سبقوه إلى معالجة الموضوع، أو انجذابه إلى مؤلف يتقاسم معه مثالاً جديراً بالتذكير والتحية. في كتاب الباحث الأردني عيد عبدالله دحيّات «حين تحرّك الشرق - ملتون والعالم العربي الإسلامي» ( الصادر بالإنكليزية في لندن عن دار Hesperus press) ما يحتضن الخيار في وجوهه المتعددة، فهو يأتي بجديد لم يقل به غيره، ويختلف مع باحثين عرب كثر، لكنه منجذب، أولاً، إلى إبداع صاحب «الفردوس المفقود» وقيمه، التي تعتبر الحرية مدخلاً إلى الوجود. حين يتحدّث الباحث في كتابه الصادر حديثاً، باللغة الإنكليزية، عن الشاعر الإنكليزي، يتوقف بلغة مقتصدة أمام صفاته: شغف بالقراءة والكتابة، وبجديد الكتب وقديمها، متابعة للدراسات واللغات الشرقية، التفات دؤوب إلى ثقافات الشعوب المختلفة، السعي وراء الحكمة الإنسانية المتراكمة والنفور من التعصّب، وافتتان بآماد الخيال وغرابة الأسماء، واحتفال بما يجود به العالم من روائح وصور ومذاق، لا يفوقه فيه من الشعراء الإنكليز إلا الرومانسي «كيتس»، الذي اعتقد أن ما يقترحه الخيال يلبيه الواقع. لا غرابة فيأن يكون الشاعر المندفع إلى الصور القائمة والمحتملة كارهاً الاستبداد، الذي يؤمن بصورة وحيدة متأبّدة، وباحثاً عن الفضيلة وعن الطرق الواضحة الغامضة التي تأخذ بيد الإنسان إلى ربه. ومع أن الإيمان العميق بآماد العوالم المتخيلة يستدعي الأثير، الذي لا حدود له، ويزهد بالضيق اليومي، فقد كان لملتون فضوله السياسي ونشاطه الديبلوماسي وتأمله الواسع للبشر، الذي يعترف بجوهر الإنسان الكوني، ولا يضيف إليه نعوتاً جاهزة، تضع بشراً فوق آخرين. استعار الأستاذ دحيّات من الشاعر، الذي درسه، شيئاً من غرابة الأسماء، فدعا كتابه «حين تحرك الشرق»، موجزاً موضوعه الأساس في عنوان ثانوي: «ملتون والعالم العربي الإسلامي». ترجم الباحث موقفه من موضوعه متوسلاً «ثنائية العنوان»، إذ في العنوان الثانوي ما يحيل على «الإنسان» الذي كانه ملتون في قضاياه المختلفة، وإذ في العنوان الأساس ما يستدعي «الفنان» المسحور بالحركة والصور والألوان وبأطياف «جنة عدن»، التي عانقها خياله وبثّ صورها في «الفردوس المفقود». وزّع الباحث «شاعره» على قسمين وقصّر المسافة بينهما، مصرّحاً بأنه يحاور الشاعر في فنه، قبل أن يقرأ الإنسان الإنكليزي، الذي كان شغوفاً بالقراءة. ولعل في اختياره شاعراً دعا إلى الحرية والتمرّد المفيد والفردية الطليقة المسؤولة، ما يفسّر ذهابه، في كتابه السابق، إلى رواية «روبنسون كروزو»، حيث المغامرة انفتاح على مجهول واعد عالي التكاليف، وحيث المغامر يبني ذاته بذاته، متحرراً من وصايا مفقرة قديمة. يقترح كتاب «حين تحرك الشرق» حرية القراءة، ذلك أنه جملة دراسات كثيفة، تقرأ فرادى ولا تخسر من معناها شيئاً، وتقرأ متضافرة منتجة نصاً متعدد القضايا والأسئلة. ومع أن النقد السعيد الذي يهوى «الكلمات الكبيرة» يركن إلى تعبير «عتبة النص»، لضرورة أو من دونها، فقد شاء عيد دحيّات «عتبة ضرورية» أو استهلالاً، عنوانه: «تعرّف الغرب إلى الإسلام والعربية»، شرح فيه الموقف الإنكليزي، كما موقف أوروبا المسيحية، بعامة، من الإسلام، خلال العصور الوسطى وعصر النهضة، ذلك الذي أسقط على «القرآن» قراءة مشوّهة. وضع المؤلف ملتون في سياق ديني وتاريخي وثقافي معين، أتاح لأوروبا أن تستفيد من الحضارة الإسلامية، وأن تعادي المسلمين ومعتقداتهم. انطوى الاستهلال، الذي لا يتجاوز ثلاثين صفحة، على توثيق مدهش أعطى، عن علاقة أوروبا بالإسلام وبالمخطوطات العربية، صورة موضوعية دقيقة التفاصيل. عالج الفصل الثاني من الكتاب، وعنوانه «معرفة ملتون باللغة العربية والتراث الإسلامي»، أسباب الاهتمام الإنكليزي المتصاعد بالدراسات العربية، في مطلع القرن السابع عشر، الذي هو تمازج بين أسباب تجارية وأغراض دينية. تقصى الباحث مداخل الشاعر إلى الموضوع المدروس، متوقفاً أمام جامعتي كمبردج وأكسفورد، اللتين اختلف إليهما ملتون في لحظة تاريخية زودتهما بمجموعات كبيرة من «المخطوطات الإسلامية»، من دون أن ينسى المرور المتمهّل على المختصين، الذين تعرّف إليهم ملتون مباشرة، أو من طريق أصدقاء له ملمّين باللغات الشرقية ومواضيعها. فمن المحقق أن الشاعر قرأ أعمالاً عن الإسلام والمسلمين، فقيرة النزاهة غالباً، وكتباً في الرحلات كتلك التي وضعها جان بودان وليون الأفريقي، وتعرّف إلى كتابات محمد الوزّان (1483 - 1550)، الرحالة والمؤرخ والجغرافي العربي. استفاد الشاعر من هذا الأخير في تكوين معرفة بجغرافيا شمال أفريقيا وتاريخ حكامها، أدرجها في «الفردوس المفقود»، وعرف أشياء من «القرآن»، الذي ترجمه عن الفرنسية إلى الإنكليزية ألكسندر روس (عام 1649) إضافة إلى اطلاعه، ربما، على ترجمة أخرى عن «اللاتينية» طبعت في بازل عام 1543. صاغ الباحث، مستنداً إلى مادة علمية واسعة، فرضيات حول اقتراب ملتون من الثقافة العربية الإسلامية، محاذراً الأحكام القاطعة، مكتفياً ب «الاحتمال العلمي»، الذي تؤيده مادة علمية تنكر المجازفة المجانية، وتنهى عن «المبالغات الشرقية». حمل الفصل الثالث عنواناً يحتاجه الفردوس الملتوني: «المراجع الشرقية في أعمال ملتون»، التي تتضمن الإنجيل ودراسات تاريخية كلاسيكية وسرديات الرحالة الأوروبيين وأطيافاً تعابث الخيال الطليق وترضيه. فوفقاً لمصادر قديمة العهد، دينية وغير دينية، كانت الجزيرة العربية بقعة مقسومة إلى منطقة صحراوية وإلى أخرى مباركة مفروشة بالبخور والعطور والأحجار الكريمة، اختبرت بلقيس ملكة سبأ فوقها الملك سليمان وفتنتها حكمته. استوحى ملتون من هذه الأرض، التي استقرت فوقها «جنة عدن» الإنجيلية، صوره الفردوسية، التي تحيل على مناخ ساحر مسقوف بالأريج والعصافير. انجذب الشاعر إلى صورة أرض، لم يعرف من جغرافيتها إلا ما عرف، محتفياً بغرابة الأسماء وبجمال حوشي غريب يوائم الذاكرة الشعرية، ويرضي نزوعاً حسياً إلى البعيد والهادئ والملوّن والأريجي. رأى ملتون وهو يتخيّل عالم النقاء البعيد، فردوس البراءة الأولى العدني، أو «الفردوس البدئي»، الذي سبق سقوط آدم إلى الأرض، بعد أن وقع في الخطيئة، وحيث الطهر المقدس، الذي أضجر الشيطان المجتهد أكثر من مرة. حول الشاعر الثمار الوافرة العطرة إلى صور ومجازات ورموز شعرية، ورأى خلفها أم البشرية حواء والشيطان العاصف الذي بدّد عوالم البراءة والجمال، ورأى وعود الخلاص السعيد التي تحيل على السيد المسيح. وبمقدار ما استولد ملتون من الأرض المباركة مساحات من الفرح لا تنتهي، وعطف عليها أرتالاً من الرموز رأى في «الجزيرة الصحراوية» عالماًَ من الشوك والمرارة والجوع والأفاعي الإبليسية، منتيهاً إلى نص شعري شاسع يقرأ الكون الإنساني في معارضاته المتعددة. انطوى الفصل الثالث على مادة معرفية مركبة قرأت «الفردوس المفقود» وأثره الهائل على الشعر الإنكليزي في زمن ملتون وما تلاه، وأحالت على دارسيه ونقاده، ومرّت على رموزه الممتدة من هرمز وغزة وأبي الهول وشمشوم ودليلة وصولاً إلى «الاستبداد التركي»، الذي رأى فيه الشاعر نظيراً للشيطان. عالج المؤلف لاحقاً، وفي فصل عنوانه «ملتون في العربية»، الطريقة التي درس بها «العرب» الشاعر الإنكليزي، والتي اتسمت بالتعميم والأحكام الجاهزة، وتلك المحاكاة الكسول، التي تجعل «الدارس» يعيد بالعربية ما قرأه في كتاب إنكليزي. وكمنهجه في الاستقصاء توقف عيد دحيّات أمام قائمة طويلة من الدارسين، منهم محمود الخفيف، الذي نشر في مجلة الرسالة عام 1946 أكثر من ثلاثين مقالة التقط فيها، وليس بلا تناقض، ما قاله باحثون إنكليز عن طهرانية ملتون وجدّه ورفضه المساومة وارتباطه بعصر النهضة. وبعد الخفيف سيقوم غيره، مثل حسن المنفلوطي، بتقسيم حياة الشاعر إلى أطوار ثلاثة: طور أول 1608 - 1639 عاش فيه تجربة البحث عن العدالة والحقيقة، وطور ثانٍ 1640 - 1660 اصطدم فيه بالسلطة السياسية وكتب نثراً بديعاً، وطور ثالث 1660 - 1674 عاش فيه يأسه وخيبته وذهب إلى «مملكة الشعر»، حيث «الفردوس المفقود» انفتاح على السماء وتأمل للخير والشر، وصولاً إلى مأساة «شمشوم»، التي كتبها الشاعر والتبس بشخصية البطل الذي كتب عنه. ومع أن في هذا المنهج القائم على التحقيب ما يوحي بالوضوح، فإن الخطأ الكبير الملازم له، كما يرى السيد دحيّات، هو عدم الفصل بين الفنان والإنسان، معتبراً أن الزمن الإبداعي لا يختزل إلى الزمن المعيش المباشر. ومن هؤلاء الدارسين المصريين الباحث لويس عوض، الذي رأى أن معتقدات الشاعر تتفق مع تعاليم الإسلام، بخاصة ما يتعلق منها بالطلاق وتعدد الزوجات وبتفوق الرجل على المرأة، من دون أن يرهق نفسه في التعرّف إلى العلاقة بين منظور الشاعر والتعاليم اليهودية، التي كان يلمّ بها إلماماً كبيراً. إضافة إلى افتراضات «باحثين» عرب جمعت بين الرغبة والأحكام المتسرّعة، هناك الحديث عن تأثر ملتون بأفكار أبي العلاء المعري بعامة وما جاء منها في كتابه «رسالة الغفران» بخاصة، التي رسمت رحلة إلى العالم الآخر، أقامت الحدود بين بهجة الجنة وبؤس السعير. كان من أنصار المطابقة بين الشاعرين الإنكليزي والعربي اللبناني سليمان البستاني في مقدمة ترجمته لكتاب هوميروس «الإلياذة»، وجورجي زيدان الذي افترض أن الحروب الصليبية أشهرت أفكار المعري في أوساط أدبية أوروبية. ساجل السيد عيد دحيّات هؤلاء وغيرهم، ومنهم الباحثة عائشة عبدالرحمن، معتمداً على معرفة دقيقة بالمراجع الفلسفية والدينية و الثقافية التي شكّلت تصورات «ملتون»، وعلى تحليل فني نافذ لصوره الشعرية في «الفردوس المفقود». ثلاثة أسباب، على الأقل، تجعل من هذا الكتاب الصغير الحجم (150 صفحة تقريباً) جديراً بأكثر من قراءة: اللغة المقتصدة المحسوبة، التي تحترم الأفكار والمقولات والبراهين، ولا تعترف بالتزايد والجمل المترادفة، والاستقصاء المعرفي النموذجي الخاص بكل عنوان من عناوين الكتاب، ومنطق البحث العلمي الصارم الذي يقرّر الفرضيات ويأخذ بها أو يطردها، وفقاً للمعطيات التي تؤكدها أو تنفيها. وهناك ذلك الرضا الذي يتلبّس الباحث وهو يسائل مبدعاً مشدوداً إلى قيمه وأفكاره. حين يتحدث الأستاذ دحيّات عن ملتون يقول: «إنه أحد العقول الأكثر نبلاً وجدارة بالاحترام في تاريخ الأدب الإنكليزي»، أو أن يقول: «برهن التاريخ على أن ملتون هو الوحيد المبصر في زمن ساده العماء». كنا نقول في زمن الصبا والشباب: «كل غصن إلى هواه يميل».