وصول الإسلاميين إلى رأس السلطة في غير بلد من بلدان الربيع العربي لم يكن أمراً مفاجئاً. فالتحليلات والتقارير البحثية والإعلامية كانت كلها تقريباً تؤكد، من قبل، أن قوى الإسلام السياسي الأكثر حضوراً في المشهد العام والأقوى تأطيراً لشرائح واسعة من المجتمعات التي تنشط فيها. وهذا ما كانت تعرفه جيداً دوائر القرار في الدول النافذة ذات المصالح المتعددة المستويات في، ومع، بلدان تحمل صفة إسلامية عريضة. النظم السلطوية والتسلطية في معظم هذه البلدان كانت هي أيضاً تعرف هذا. وكان شائعاً جداً، منذ عقدين عموماً ومنذ اعتداءات 11 أيلول (سبتمبر) خصوصاً، الاعتقاد بأن انتخابات حرة ونزيهة ستقود، في كل البلدان تقريباً، إلى فوز الإسلاميين. التجربة الجزائرية الدموية مطلع التسعينات سلطت الضوء على هذه الواقعة. وجاء فوز حركة حماس الفلسطينية المفاجئ لكثيرين، وبينهم الحركة نفسها، ليزيد حال الارتباك في كيفية التعاطي مع وقائع فرزتها، ولا تزال، صناديق الاقتراع. يمكن تقديم أمثلة وشواهد أخرى. ولا حاجة للتذكير بمواقف وقرارات كانت تكيل بمكيالين، بل حتى بمكاييل مختلفة تبعاً لشخصية الفائز وما يمثله. ما كان يجيز هذه السياسة الانتقائية لا يعدو أن يكون تنويعاً على مقولة الاختيار بين السيء والأسوأ أو بين الأقل والأكثر سوءاً. في الحالتين المذكورتين في أقل تقدير، رُفضت نتائج الانتخابات وجرى التمسك بالسلطات القائمة مع الإقرار بتراجع قوتها التمثيلية وبغرقها في الفساد والتسلط. كان من السهل تبرير ذلك بالقول إن النخبة العسكرية والحزبية وزبائنيتها تبقى أفضل من الأصولية الإسلامية العنيفة والشمولية. وكان من السهل أيضاً إبراز شبهة أن تكون الانتخابات، في منظار الإسلاميين ومناوراتهم، مجرد وسيلة، عصرية والحق يقال، بين وسائل أخرى للوصول إلى السلطة، أي أن العملية الانتخابية لا تندرج في تصور متماسك عن الفكرة الديموقراطية واستبطانها للتنافس كشكل سلمي للصراع بين قوى اجتماعية مختلفة. ويستفاد من هذا، ومن شواهد أخرى كثيرة، أن مقولة الاختيار بين السيء والأسوأ، لها تاريخ في الممارسة السياسية وترسانتها الذرائعية المتعللة بالواقعية وضروراتها. هذه المقولة هي على أي حال المعادلة المطروحة اليوم على بيئات وأوساط يزداد توصيفها العريض بالصفة العلمانية، وهي في الحقيقة خليط من القوى أو الحلقات الليبرالية واليسارية والقومية وتشمل أيضاً فئات مدنية حائرة ومتدينة على طريقتها، ويضطرد توصيفها بالعلمانية لاعتبارات تتعلق بالحاجة إلى التمايز عن الإسلام السياسي تحديداً وعن البيئات الدينية عموماً في بعض الحالات. قد يكون مفيداً، التذكير بأنه ينبغي على من يختار السيء تفادياً أو هرباً أو خلاصاً من الأسوأ ألاّ ينسى أنه اختار السيء، على ما كانت تردد الكاتبة السياسية الأميركية والألمانية الأصل هنه أرنت. ويرمي التذكير إلى عدم جعل مثل هذا الاختيار عقيدة أو قناعاً أيديولوجياً لتعطيل النقد وتسويق الاصطفاف الأعمى، بل إلى التمسك بضرورة السعي إلى الإصلاح والتحسين، عسى ولعلّ. تكاد المقولة المذكورة تختصر المناظرة الدائرة على مقاربات ومواقف مروحة واسعة من الناشطين والمنتفضين والخائضين في أحوال الربيع العربي وآفاقه. المشكلة أن هذه المناظرة لا تنجح كثيراً- بالنظر إلى حجم التدخلات الإقليمية والدولية في مسار الانتفاضات العربية- في انتزاع مقدار معقول من استقلالها الوطني بنفسها. فيغلب عليها استئناف المقولة، وترسيمة القوى والمصالح النافذة فيها، في قوالب مستجدة ما يجعلها لا تحسم شيئاً حقيقياً. العنوان العريض الذي تتجدد الانقسامات الحادة تحته وحوله يلخصه السؤال الآتي: مَن أو ما هو السيء، ومَن أو ما هو الأسوأ. ليس هناك أدلّ على ذلك من ظاهرة «تراشق» الموصوفين بالعلمانية بفرضيات متقابلة ينسبها كل فريق، ووفق الحاجة وما تمليه من ضروب الانتقائية غالباً والانتهازية النفعية أحياناً، إلى موقع الإسلاميين ودورهم الحالي والمستقبلي في الحراك الثوري. ففي البلدان التي حصل فيها التغيير وسقط رأس النظام، كتونس ومصر وليبيا وبدرجة أقل اليمن، تتجه الأمور اليوم- خصوصاً في مصر وتونس بالنظر إلى طبيعة النظم الاجتماعية فيها وإلى ثقل تاريخ الفكرة الوطنية- إلى تصاعد النزاع بين الإسلام السياسي المنتصر في الانتخابات والقوى «العلمانية» والمدنية المتخوفة من إعادة توليد الاستبداد في صيغة جديدة ومتجددة تحتل فيها المرجعية الدينية مكانة بارزة. ويميل «العلمانيون» عموماً إلى التشكيك في صلاحية وقدرة «الإخوان المسلمين» في مصر وحركة النهضة في تونس على قيادة الانتقال نحو التعددية والديموقراطية. والشرعية المستقاة من صناديق الاقتراع لا ترفع عن الإسلاميين تهمة «سرقة» الثورة من أصحابها الشرعيين الذين أظهروا كفاءتهم في الميدان وفي الشارع. قصارى القول إن الإسلاميين حظوا، في منظار معارضي بن علي ومبارك، بوضعية وصفة الأقل سوءاً فيما احتل القذافي الذي أسقطه وأعدمه التدخل العسكري الأطلسي المباشر، صفة نسبها كثيرون إليه وإلى غيره: ليس هناك أسوأ منه. كانت النخب الحاكمة، قبل الثورات، تعوّل هي الأخرى، بتناغم متفاوت مع القوى الغربية النافذة وحربها الكونية ضد «الإرهاب الإسلامي»، على مقولة إنه ليس هناك أسوأ من الإسلاميين. الحال السورية أكثر تعقيداً. فالنظام الذي اعتمد من البداية على البطش كان وما زال يعول على المقولة هذه مستفيداً في آن من تمتعه بهامش مناورة أوسع من نظرائه بسبب أو بفضل تنويع علاقاته الإقليمية والدولية، ومن افتراضه أن استدراج المعارضة إلى المواجهة المسلحة سيقوي حكماً الحضور الجهادي والقاعدي في الثورة السورية، ما يعزز الاعتقاد بأنه الأقل سوءاً إن لم يكن أفضل ملاذ وحصن للمتخوفين من الزحف الإسلاموي. والحال أن فكرة الاستجارة من الرمضاء بالنار بدأت تشق طريقها وتبلبل الخواطر والمشاعر في كل مكان. وبدا من تعليقات معارضين على دور «جبهة النصرة» وما يشبهها نوع من الابتزاز الذاتي إذ يخشى هؤلاء أن يستفيد النظام الشرس من شكوكهم في جدوى وصلاحية قوى جهادية أفصحت عن برنامجها المخيف. المزعج في هذه المناظرة حول السيء والأسوأ هو أنها تستعير في معظم الأحيان رطانة إدارات القوى النافذة فلا يبقى من مفاهيم الإسلام سوى وظيفة استعمال في هذا الاتجاه أو ذاك.