ليس غريباً أن تشهد عملية الانتفاض على الأنظمة المحروسة بقبضات ورماح الأجهزة، غلوّاً طفولياً وإرهاصات. فمعظمها قابل للاحتواء، يطفو على سطح الحدث جرَّاء ممارسات القمع الطويلة وتكبيل الحريات الذي رافقها، وبمقدار من الضجيج والمراهقة. بيد أن المعيار والفيصل في تحديد المسار العام، يبقيان شديدي التأثر بالمحتوى الثقافي المؤسِّس، المعبر عنه في المصادر المعتمدة والسلوك الاجتماعي المبني على مقدِّمات قواعدها. وخلافاً للمقاييس السياسية المواتية في اللحظة، كالاجتماع على رفض الظلم والهيمنة، وطلب إسقاط نظام القهر والاستبداد (والتي قد تستوعب أيضاً عنصرية دفينة في مواجهة الأجنبي والاستعمار)، تتكشف تباعاً حقائق مؤلمة مثيرة خلال المسار، بدءاً من المرحلة الانتقالية التي تتلو انهيار الصنميّة وانفتاح مساحة الحريات. ولعلّ الحال السورية استبقت تمظهر التشدّد السلفي (الجهادي والدعوي) وبحضور نواهيه وضوابطه في الميدان قبل بدء العملية السياسية وانهيار النظام الأسدي. عند مقاربة مسألة الإسلام السياسي عولج صعوده الحركي بمقدار من الموضوعية، بلا إحراج ولا أحكام مسبقة من الأجنحة المدنية والعلمانية في معظم الساحات والأحيان. هذا ترجم واقعاً وأسفر عن فعاليات مشتركة وتفاهمات، أفضت إلى صيغ تعاون ومشاركة، بلغت حدّ التصويت لمرشح الإخوان المسلمين على منصب رئاسة الجمهورية المصرية في الدورة الثانية للانتخابات. كذلك توزعت المناصب في تونس على قاعدة المبادلة، كما ضمّ التحالف الوطني أطيافاً مدنية وإسلامية في ليبيا. لكن المفترق لاح على مسافة قريبة من خط الانطلاق، انحرف عنده الإسلام السياسي الحركي عن المسيرة الجامعة، مخرجاً الأصول الشرعية من جعبته كشرط حاكم للدستور، وعاملاً (بتفاوت بين فرعيه، الإخواني والسلفي، وبفارق درجات) بدأب وتصميم بغية الإطاحة بالقيم المدنية والدستورية الخالصة وإسباغ اللون الديني على مجمل التشريع، من أخونة وأسلفة قروسطية وتشدد ظلالي موصوف. كان من المتوقع، على ما يمدنا به التاريخ من شواهد، إعادة فرز الكتل السياسية المنضوية في خضم الانتفاضات تحت راية عزل النظام القديم المتهالك وتصفية مواقع نفوذ رموزه. ففي الأصل غلب التنوّع، ورفع التعدد مثابة مرآة التحول الديموقراطي وضمانة الثبات على مفاعيله. غنيٌّ عن البيان أن معادلة التعدّدية، المعترف بها قولاً وعملاً كإطار للتنافس الحرّ وتداول السلطة، بدأت تهتزّ جرَّاء المطاعن اللاحقة بأصولها من جانب الإسلام السياسي الحركي، العائد إلى محارث ومعاول الصحوة لإعمالها في المجتمع. تلك أشواك الربيع العربي، وهي تدعو إلى اليقظة حيال التوليفات الاستئثارية ومقاومة صانعيها بأدوات الديموقراطية السلمية ووسائلها. لكن وروده لم تذبل، وهي ماثلة في تيَّار مدني عريض، من تونس الشرارة إلى مصر السَّمِحَة. أوَ ليس تصارع الأفكار في أوجّه، صريحاً يأبى الانحناء أمام استثمار المقدّس لأغراض التحكم والسلطة، ويرفع الغطاء عن مقاولي النصوص ودعاة التقليد خارج الزمان؟ ربّ مسرع إلى استخلاص محصِّلة سلبية، هاله تلاحق الأحداث، مقروناً بمظاهر نافرة تعيب على المجتمع تبنّي الحداثة والقيم المدنية المعاصرة، وتزرع بذور الشكّ في جدوى الرهان على التغيير الحاصل وآفاقه. وقد لا يجنح المشهد القائم إلى طمأنة المُشكّكين، بعد أن خذلهم عناد الأصوليين وغلوِّهم، سيما أن استسهال المجريات والفقه المشوّه لمحتوى الصراع، على شاكلة أتباع مدرسة الأحادية والقائد الملهم، يقودان إلى اليأس والظنّ بمحاسن الديموقراطية وفضائلها، والخلط بين المضامين والأشكال. فالأمر شديد التعقيد، لن يحسم في مدى زمني قريب، إنما يستوجب تعرية المساومين على الحريات في مقابل الرضوخ لمفاهيم تختلف في الجوهر عن الديموقراطية، بدواعي حاكمية الظروف الوضعية والأصالة الثقافية والمنسوب الديني الملازم للتكوين المجتمعي. شاء طُول أمد الثورة السورية الإتيان باكراً بما يحفّ التغيير من معوِّقَات وظواهر مفسدة، والشعب بأسره في غمرة الكفاح والتضحيات. هكذا برزت ألوية وكتائب مسلحة تدين بالنصرة وترفع رايات الجهاد، على هامش المعارضة السياسية، إنما في متن العمل المسلح وداخل الميدان. البادي انتفاء عامل الانضباط، مضاف إلى علاقة ملتبسة بالمكوّن المسمى «الجيش الحرّ». أما مبلغ نفوذ هذه الجماعات، ومدى اختراقها المجهود العسكري وهيكله المطَّاط، فما زال الغموض يحيط بهما، على رغم تأكيدات نافية صادرة عن أجهزة المعارضة المؤتلفة. لذا، يبدو الحراك في سورية مثقلاً في حد ذاته، ومختبراً للقوى وأفعالها، بما يتعدَّى التوصيفات الهيولية وإرجاء جدول المحاصيل والحسابات. في الواقع، تخضع الثورة السورية لامتحان صعب، إذ لم يعد تمدّد الجماعات الأصولية المسلحة خافياً على الداخل والخارج، وهو ينكر على أطياف المعارضة القول بالأعذار وصدق النوايا. ولا يفيد في الأمر توسع الاجتهاد ما لم تسارع قوى الثورة إلى الإمساك فعلياً بفصائل المقاومة المسلحة وإيجاد صيغة ملائمة للجمع بين الحراك السياسي والعمل المسلح. إلى ذلك الحين، تبدو صورة «الإخوان المسلمين» في سورية نقيض المشهود في سائر مواقع الربيع العربي، حيث تكاد السلفية الجهادية أن تكون أكثر حضوراً في الميدان، رغم محدودية فعلها الشعبي وانتهاجها خطّاً مُغايراً للمسار الأصلي والمراد العام. هذه تجليات مخاض ثوري لم تؤت فصوله كاملة حتى اليوم، وهي بالتأكيد تأكل من جسد الثورة، وتحيل التساؤلات والسِّجالات على المربع الأول، شأنها شأن تخبّط الإسلام السياسي الحركي بين مقتبس من منهج الديموقراطية، وغارقٍ في العنف والأوهام. أن يصبح الإسلام السياسي الحركي مُرادف مقتنص السلطة المخادع، وغلاف الانقلاب على حلفاء الأمس، كما حصل في إيران، أم أنّ النزعة الفاشية ما فتئت تراود قطاعات وفصائل منه، وتمنع عليها صدق التحالف والمصالحة مع الآخر؟ حبَّذا لو يأتي الجواب بالنفي، لكن المؤشِّرات، وآخرها الإعلان الدستوري لصاحبه محمد مرسي في مصر، تخبر الضنين بالربيع العربي ولا يودّ سماعه، بل يخشاه.