يستعد العراقيون لاستقبال الذكرى العاشرة لإطاحة نظام صدام حسين البعثي وميلاد العراق الجديد. صحيح ان فعل الاطاحة حدث في التاسع من نيسان (ابريل)، لكن مصير النظام كان حسم عملياً قبل ذلك بخمسة اشهر، تحديداً منتصف كانون الأول (ديسمبر) 2002 خلال مؤتمر للمعارضة العراقية في لندن، أدارته الولاياتالمتحدة ممثلةً بزلماي خليل زاد الذي عينته ادارة الرئيس السابق جورج دبليو بوش منسقاً مع الجماعات المعارضة. لاحقاً، تم تأكيد هذ المقررات خلال مؤتمر آخر للمعارضة عقد في مثل هذا الوقت من شباط (فبراير) 2003 في منتجع صلاح الدين في كردستان. بدءاً من ذلك التاريخ، دخلت الاستعدادات لغزو العراق مرحلة التنفيذ. بعد أيام على سيطرة قوات التحالف على بغداد في 9 نيسان عقد في مدينة الناصرية ما وصف ب «كونفرانس» (مؤتمر) للمعارضة أشرف عليه الجنرال جاي غارنر المعيّن من الادارة الاميركية مسؤولاً عن «مكتب الإعمار والمساعدات الانسانية» وبمشاركة خليل زاد وممثل عن رئيس الوزراء البريطاني توني بلير. والحق انه منذ ذلك الاجتماع بدأت عملية تراجع تدريجي عن تنفيذ قرارات مؤتمر لندن مع انه كان يفترض ان يكون بداية لعملية انتقال السلطة الى القوى السياسية المناهضة للنظام السابق، تنفيذاً لقرارات مؤتمر لندن وفي مقدمها تأسيس الدولة المدنية الديموقراطية. المفارقة تكمن في ان هذا الهدف تحديداً شكّل نواة الصراع المستمر على طبيعة الدولة المرجوة. الاتجاه في اجتماع الناصرية كان الى البدء بتنفيذ قرارات مؤتمر لندن من أجل تشكيل سلطة انتقالية كخطوة اولى. وتقررت دعوة زعيمي الحزبين الكرديين الرئيسيين جلال طالباني ومسعود بارزاني الى بغداد والمباشرة بإجراء اتصالات بالأحزاب والقوى السياسية والشخصيات، بمن فيها مَنْ هم داخل العراق ممن كانوا يعارضون النظام البعثي. هناك رأي سائد بأن المحاصصة العِرقية– الدينية في العراق وضعت أسسها في مؤتمر لندن. لكن هذه المحاصصة كانت أمراً حاصلاً منذ الثمانينات عندما ترسخ الاستقطاب العِرقي– الديني على صعيد الجماعات المعارضة التي انتقلت لاحقاً الى موقع السلطة في عراق ما بعد صدام. ومع ان مؤتمر لندن حرص على استمرار ذلك الاستقطاب لجهة تمثيل أطرافه، إلا أنه لم ينعكس في قراراته الرئيسة. وتأكيداً لذلك، أبرز هنا، القرارات التي لو نُفِّذت لكانت التطورات اللاحقة لإطاحة صدام اتخذت مساراً آخر: «- تشكيل مجلس وطني انتقالي يتألف من مكونات الشعب العراقي القومية والدينية والمذهبية والتيارات السياسية والاجتماعية مع مراعاة التوزيع الجغرافي ومن ذوي الخبرة والكفاءة للقيام بمهمات التشريع خلال المرحلة الانتقالية ومراقبة اعمال السلطة التنفيذية. - تشكيل مجلس سيادة من ثلاثة من القادة من ذوي الماضي النضالي والمشهود لهم بالنزاهة. - تشكيل حكومة مدنية ائتلافية تعكس واقع المجتمع العراقي ومكوناته وتوجهاته السياسية، وتضم شخصيات سياسية واختصاصية من ذوي الخبرة والكفاءة. - وضع دستور للمرحلة الانتقالية تتولى إعداده لجنة من ذوي الخبرة والكفاءة ومشهود لهم بالوطنية. - يتولى المجلس الوطني الانتقالي تشكيل لجنة متخصصة من شخصيات اكاديمية وقانونية وسياسية، وفقهاء دين متخصصين يمثلون واقع المجتمع لوضع دستور دائم على ان يعرض على الشعب للمصادقة عليه في استفتاء عام. - إجراء احصاء سكاني بعد ازالة آثار التهجير والتطهير العرقي والتغيير الديموغرافي في كردستان وبقية مناطق العراق وبإشراف دولي، وذلك قبل اجراء الانتخابات. - تشكيل لجنة متابعة وتنسيق من خمسة وستين عضواً من مهماتها الاتصال بالجهات والشخصيات التي لم تشترك في اعمال المؤتمر». أعيد تأكيد هذه القرارات في اجتماع الناصرية مدعومةً من الجانب الاميركي الذي وافق على تشكيل مجلس وطني نواته اعضاء «لجنة المتابعة والتنسيق» (65 عضواً انتخبوا في مؤتمر لندن). آنذاك نقل القيادي الكردي الدكتور فؤاد معصوم عن خليل زاد قوله للمجتمعين: «انتم تقررون عدد اعضاء المجلس وآلية اختيارهم... والمهم ان تكون هناك ديموقراطية وفصل سلطات وحكم قانون». لكن انشغال الجماعات العراقية بالحصول على «المكاسب» عنى ان مهمة بناء الدولة الجديدة لم تكن من أولوياتها. وإذ مر شهر على اطاحة صدام وما رافق ذلك من فوضى وفرهود (النهب والسلب)، فوجئت الجماعات العراقية المنشغلة بأمور لا علاقة لها ببناء الدولة، بقرار وزير الدفاع الاميركي دونالد رامسفيلد انهاء مهمة الجنرال غارنر وتعيين بول بريمر حاكماً أوحد على العراق تكون لقراراته سلطة القانون. ما حدث بعد ذلك من اعلان العراق دولة خاضعة للاحتلال وتشكيل مجلس الحكم منتصف تموز (يوليو) تاريخ معروف. مشروع كتابة الدستور كان من أبرز المعارك السياسية بين الجماعات الحاكمة. ووفقاً لمعصوم فإن بريمر اقترح على المجلس نهاية تموز تشكيل لجنة تحضيرية لعقد مؤتمر دستوري، وفي آب (اغسطس) قرر المجلس تشكيل لجنة للبحث في آليات الدستور مؤلفة من 25 عضواً. هذه المحاولة تعثرت وسط جدل بين أطراف العملية السياسية والجانب الأميركي وإدخال المرجعية الدينية على الخط لاعباً رئيساً لتحسم أخيراً الجدل لمصلحة تأجيل كتابة الدستور من جانب لجنة خبراء، وترك الأمر الى مجلس تأسيسي منتخب من الشعب. مرة أخرى استشهد بمعصوم الذي ينقل عن آية الله العظمى السيد علي السيستاني قوله لأعضاء اللجنة خلال زيارته: «لماذا تستعجلون وضع الدستور. فالعراق عاش لعقود من دون دستور دائم، فليتأخر هذا الدستور ثلاث أو أربع سنوات أخرى. المهم أن تتفقوا على بعض الأسس والمبادئ في شكل موقت ثم اكتبوا الدستور بأيدٍ عراقية منتخبة». هذا ما حدث. عراقيون منتخبون من الشعب على اساس ولاءاتهم العِرقية– الطائفية كتبوا الدستور الحالي على عجالة حضّهم عليها اللاعب الأميركي الذي كان معنياً بمواعيد معينة وفقاً لأجندة الادارة لاعتبارات داخلية انتخابية. والنتيجة ان الذين حرروه «انجرفوا وراء الصيغ الأدبية بدل الصياغة القانونية» على حد تعبير معصوم، معترفاً بأنه كان واحداً منهم، ناهيك عن ان الغموض ساد معظم مواد الدستور التي روعيت فيها المصالح الذاتية ل «مكونات» المجتمع العراقي، اي للجماعات العِرقية والطائفية. هكذا بدأت الأزمة السياسية الحالية في العراق.