اهتم ولاة مصر منذ الفتح الإسلامي بإنشاء المستشفيات من أجل الرعاية الصحية للسكان. واستخدم اللفظ الفارسي البيمارستان (بيمار = مريض؛ ستان = أرض ) في الإشارة إلى المستشفيات التي أقامها ولاة مصر منذ أيام الدولة الأموية حتى زمن أحمد بن طولون 259ه / 873م، إلى أن أمر صلاح الدين الأيوبي بإنشاء ثلاثة مستشفيات جديدة في القاهرة والإسكندرية 577ه/ 1182م . على أن أهم وأشهر المستشفيات في مصر كان مستشفى السلطان المملوكي المنصور قلاوون، الذى أنشئ عام 683ه/ 1284م. وكان يستقبل كل أفراد الشعب أياً كانت مرتبتهم الاجتماعية، سواء كانوا من المواطنين العاديين أم من الجنود المماليك. ومن أجل إدارة حسنة للمستشفى، أوقف السلطان المنصور قلاوون عليه وألحق به عدداً من الممتلكات والعقارات والحوانيت والحمامات والفنادق (جمع فندق وهو مكان ينزل فيه التجار الأجانب ببضائعهم). وتحدث العديد من المصادر التاريخية المملوكية عن ذلك المستشفى، غير أن حجة وقف السلطان قلاوون تمدنا بالعديد من المعلومات حول أشهر المستشفيات في تاريخ مصر في العصور الوسطى، فتذكر أنه كان يقع في منطقة بين القصرين، وأنه لم يكن ليضارعه أي مستشفى آخر في العالم الإسلامي، أو الأوربي الوسيط بطبيعة الحال، بسبب تفوق الحضارة الإسلامية في مجال العلوم والطب . وكان مستشفى قلاوون يحتوي على قسمين، للرجال والسيدات؛ وفي كل قسم قاعات وغرف لمختلف الأمراض الباطنية والجراحة وأمراض العيون، فضلاً عن قاعة لتجبير العظام. كما كان لكل تخصص رئيس من الأطباء الكبار وثلاثة مساعدين... وهكذا، فقد تواجد بالمستشفى ما يشبه الآن رئيس أقسام الأمراض الباطنية (الطبائعية) Physicians، ورئيس أقسام الجراحة (الجرائحيين ) Surgeons، ورئيس قسم طب العيون (الكحالين) Ophthalmic Surgeons. وجرى الاهتمام بالمرضى بشكل كبير، إذ كان يتم توفير الأدوية والعقاقير، فضلاً عن الأسرّة والماء العذب والإضاءة الجيدة، بالإضافة إلى توفير عمال لنظافة المستشفى وغسيل ملابس المرضى وقضاء مصالحهم. والحقيقة أن مستشفى السلطان قلاوون كان عنواناً طيباً للبعد الاجتماعي والطبي للحضارة الإسلامية، إذ تميز برعايته الفائقة لمرضاه، فقد امتدت مظلة الرعاية الصحية التي يقدمها المستشفى إلى المرضى الفقراء في بيوتهم، إذ تم أيضاً صرف الأدوية والعقاقير والأغذية ومتابعة حالهم الصحية من دون أن يؤثر ذلك على الميزانية المخصصة للمرضى المقيمين بالمستشفى. وكان يتم تحضير الأدوية داخل قاعات المستشفى، ثم يجرى وضعها في أوان خاصة بها، ثم تخزينها في جو مناسب لئلا تفسد. وكان في المستشفى صيدلي مسؤول عن هذا الأمر. وبالإضافة إلي الأطباء والصيدلي، تواجد في المستشفى العديد من الممرضين الذين يقومون بتسليم الدواء إلى المرضى ومتابعة تناول كل منهم لعلاجه. وتكفل مستشفى السلطان قلاوون بإراحة مرضاه، إذ جرى توفير مراوح من الخوص يستخدمها المرضى في التهوية في الصيف. فضلاً عن ذلك كان كل مريض يتناول طعامه بمعزل عن الآخرين، كما جرى توفير أغطية خاصة لمنع غذاء المرضى من التلوث . ومارس مستشفى السلطان قلاوون بالقاهرة في القرن السابع الهجري (الثالث عشر الميلادي) دوره الكبير في تدريس الطب كأفضل ما يكون، بعد أن استقبل الطلبة الراغبين في تعلم مهنة الطب بواسطة الأساتذة الكبار في المستشفى. وهكذا اهتم مستشفى السلطان قلاوون بتوفير الرعاية الصحية القصوى للمرضى، وذلك عبر تجويد تعليم مهنة الطب للأطباء الجدد، فبعد امتحانهم عدة مرات، كان يجرى احتفال بتخرجهم وفق تخصصاتهم المختلفة، كالطبائعيين، والجرائحيين، والكحالين. وفى هذا الاحتفال كانت تجرى كتابة تعليمات ونصائح لهم في حياتهم المستقبلية في مهنة الطب. وعلى سبيل المثال، كان يجري تذكير أطباء الباطنة دائماً بالقواعد الطبية التي تقضي بعدم صرف الدواء إلا في مكانة الصحيح، مع تجنب صرفه لمن لا يحتاجه. وعلى حد قول المصادر التاريخية المملوكية: «ليتجنب الدواء ما أمكنه المعالجة بالغذاء». كما جرى التنبيه على الأطباء بضرورة مراعاة الآثار الجانبية Side effects للأدوية والعقاقير التي جرى تحضيرها: «وإذا اضطر إلى وصف دواء صالح للعلة، نظر إلى ما فيه من المنافاة، وإن قَلَّتْ، والاحتراز في وصف المقادير». كذلك جرى التنبيه عل الكحالين بأنهم قد أصبحوا متخصصين ومسؤولين عن أهم أعضاء الحواس في الإنسان، ولهذا يجب التعامل مع العين بحذر بالغ: «ها أنت قد أفردت بتسليم أشرف الحواس الخمس، وهى العين، فارفق بها، فإنها من طبقات، منها الزجاجية، ومنها شبيه الزجاج. ولا يقوم عليها بمداواة حتى يعرف حقيقة المرض، والسبب الذي نال به ذلك الجوهر العرض، ثم داوِها مداواة تجلو بها القذ عن البصر». أما التعليمات الموجهة إلى الجرائحيين، فقد ذكرتهم بضرورة الاهتمام بعملهم، وأن يكونوا على أتم استعداد لمعالجة حالات الكسور، والجراح، وخاصة ضرورة الاستعداد لمرافقة الجنود المماليك في حروبهم، والقيام بعملياتهم الجراحية في ميدان المعركة. كما خاطبت التعليمات الطبية الجراح: «أجْبِرْ كل كسر، وشُدَّ كل أسر، وخُطَّ كل فتق، وقوِّ كل رتق، وداوِ الكلام، وداو باللطف... واعمل على حفظ الأعصاب، وشد الأعضاء، حتى تمكن معالجة المصاب... وليحذر قطع شريان، فما قطع إلاّ ونزف دم صاحبه حتى يموت، وليعد معه (الطبيب الجراح ) ما يكون لإخراج النصال، فإنه يكون مع عساكرنا المنصورة أوقات الحرب، والسهام تغوص في الجروح، والرماح في رجل هي والحسام». أما أسلوب كشف أطباء مستشفى الناصر قلاوون على المرضى، فكان يتم بشكل منفرد، وإذا ما لاحظ الطبيب عرضاً غريباً على المريض، كان يطلب أن يقوم بمشاركته في الكشف عليه طبيب تخصصي آخر. وفى حالات عديدة، كان الأطباء من مختلف التخصصات يتحلقون حول سرير المريض على هيئة كونسلتو Consulto من أجل التوصل إلى التشخيص السليم، وإنقاذ حياة المريض، عبر صرف العلاج المناسب لحالته في روشتة طبية... «في دستور ورق ليصرف على حكمه». كذلك الأمر إذا توجب على الكحال استدعاء الطبيب الطبائعي للكشف معاً على المريض الذي قد يعود مرض عينه إلى مرض باطني. ويوضح لنا ذلك مدى التعاون بين فروع الطب المختلفة، الأمر الذي انعكس بالإيجاب على مستوى الرعاية الصحية في مستشفى السلطان قلاوون، وهو ما لفت نظر الرحالة المسلمين الذين مروا بالقاهرة في عصري المماليك والعثمانيين. من ذلك ما ذكره الرحالة المغربي ابن بطوطة الذى زار مصر في القرن الرابع عشر الميلادي حين يصف مستشفى السلطان قلاوون: «أما المارستان الذى بين القصرين عند تربة الملك المنصور قلاوون فيعجز الواصف عن محاسنه، وقد أعد فيه من المرافق والأدوية ما لا يحصر»، ووصفه الرحالة العثماني أوليا جلبي، الذي زار القاهرة في منتصف القرن السابع عشر الميلادي قائلاً: «إنه مستشفى عظيم يقع في ركن حرم جامع السلطان قلاوون، ولا وجود لمبنى يشبهه في بلاد العرب والترك والعجم، كما أن بناءه الحديث من حيث الفخامة والعظمة جعلني لا أشهد مبنى بمثل هذه العظمة». وذكر أوليا جلبي أيضاً أنه مرض مرضاً مزمناً لمدة أكثر من ربع القرن من عمره (1611- 1684م). وعلى الرغم من التماسه العلاج في أكثر من مكان في المستشفيات التابعة للدولة العثمانية، فإنه لم يشف إلاّ في مستشفى السلطان قلاوون بالقاهرة، وذلك بواسطة دواء سماه «الترياق الفاروقى»، وذكر أنه كان يُستخرج من الثعابين داخل المستشفى. ولم يكن هذا الدواء يحضر في مصر سوى مرة واحدة في العام، وكان يجري تصديره أيضاً إلى إسطنبول، عاصمة الخلافة العثمانية. * كلية الآداب، جامعة الملك فيصل، الأحساء.