أياً تكن الأسباب الحقيقية التي حدت بالبابا بنديكتوس السادس عشر إلى التنحي عن السدة الرسولية، فان هذه الخطوة الاستثنائية جداً – الأولى منذ نيف وسبعة قرون والرابعة في التاريخ – ستكون لها تداعيات بالغة التأثير في مسار الكنيسة الكاثوليكية التي تجتاز واحدة من أدق مراحلها منذ ألفي عام. المنتقدون لهذه الخطوة يعتبرون أن فيها خروجاً على القانون الكنسي والاجتهادات اللاهوتية، على رغم أن بنديكتوس السادس عشر، وهو من أبرز المفكرين اللاهوتيين، قد أكّد في كتاب/مقابلة منذ سنوات «عندما يتيقّن البابا من أنه لم يعد قادراً، جسدياً وعقلياً وروحياً، على تأدية رسالته، يتوجب عليه، في بعض الحالات، أن يتنحى عن السدة الرسولية». ولم يتردد بعض المعترضين على هذه الخطوة، مثل أسقف كراكوفيا الذي كان أقرب مساعدي البابا السابق يوحنا بولس الثاني، في الذهاب إلى حد القول: «إن من كان على الصليب لا ينزل عنه»، في إشارة واضحة إلى إصرار البابا فويتجيلا على مواصلة رسالته حتى الرمق الأخير على رغم المقاساة الجسدية التي كانت بادية عليه بسبب من المرض والشيخوخة. أما المؤيدون لهذا القرار، ومن تعاطفوا مع البابا وامتدحوا مبادرته، فيرون فيه خطوة تاريخية جريئة من شأنها أن تدفع المؤسسة الكنسية إلى إعادة النظر في علاقتها مع السلطة التي هي في صلب الفضائح المالية والجنسية التي تعصف بها وتوهنها منذ سنوات. وليسوا قلة من يقرأون في قرار التنحي صرخة هادئة يطلقها رأس الكنيسة الكاثوليكية بعد أن عجز عن إنجاز مهمته الإصلاحية ووجد نفسه وحيداً و «راعياً تحيط به الذئاب» كما وصفته صحيفة لوسرفاتوري رومانو، الناطقة بلسان الفاتيكان والموصوفة بشدة رصانتها، أوائل الصيف الماضي عندما انكشفت فضيحة سرقة أوراقه الخاصة على يد قهرمانه. وثمة من يرى في خطوة البابا بنديكتوس انسجاماً عميقاً مع المسلكية القائمة على مبدأ مسيحي أساس، هو التواضع الذي طالما شدد عليه في مواعظه وكتاباته ودعا إلى ممارسته في الحياة الخاصة والعامة باعتباره جوهر المعتقد الديني ودليلاً على القوة وليس العكس. عندما فاجأ بنديكتوس السادس عشر مجمع الكرادلة، والعالم، معلناً باللاتينية تنحيه عن كرسي بطرس قال: «بعد أن سلمت أمري إلى الرب وراجعت ضميري مراراً وتكراراً، تيقنت من أنني، بسبب من تقدمي في السن، لم أعد قادراً على تأدية رسالتي». لكن تلك العبارات الموزونة التي اختارها البابا بعناية فائقة لم تخف المرارة العميقة التي يعرف المقربون منه كم كان يعاني منها في وحدته التي كانت تتسع دائرتها حوله باضطراد تحت وطأة الحصار الماكيافيلي الذي كان يتعرض له بصمت على يد المتضررين من حملته على الفساد المعشعش في قلب الكنيسة الكاثوليكية التي تراقب، مرهونة لفضائحها المتعاقبة وعاجزة عن مواكبة التطور، كيف يتقدم الإسلام في أفريقيا وآسيا، وتتعلمن أوروبا وتتمدد الكنيسة الإنجيلية في أميركا اللاتينية خزان الكثلكة في العالم. بعد أن أعلن البابا تنحيه ألقى عميد مجمع الكرادلة آنجيلو سودانو كلمة مقتضبة قال فيها: «لقد نزل علينا النبأ نزول الصاعقة في يوم سماؤه صافية». لا شك في أن سماء الفاتيكان لم تكن صافية ذلك اليوم. ولعلها ما عادت سماء.