هل بدأت إيطاليا تمهّد لاستعادة السدة البابوية بعد انقضاء ثلاثة عقود تقريباً من «الهيمنة الاجنبية» على الكرسي الرسولي؟ الزوابع التي تهّب على حاضرة الفاتيكان منذ أسابيع، و «الأسلحة» المستخدمة في الصراعات الخفيّة التي تثمر فضيحة غب الأخرى، تنذر بأن ثمة مَن قرَّر ان الوقت قد أزف ليوجّه الروح القدس رعايته نحو كاردينال ايطالي ليجلس في سدة بطرس التي يتربع عليها اجنبي منذ العام 1978. صحيفة «لوسرفاتوري رومانو» الرصينة، الناطقة باسم الفاتيكان، تصف البابا بنيديكتوس السادس عشر «متألماً وحزيناً... وراعياً تحيط به الذئاب». كيف لا والفضائح تتعاقب، وتتفاقم تداعياتها، منذ انتخابه خليفة ليوحنا بولس الثاني العام 2006؟! آخر هذه الفضائح جاء من الدائرة الضيقة، والأقرب إلى الحبر الاعظم، من «الاسرة البابوية» التي اختار هو بنفسه أفرادها التسعة ليكونوا رفاق وحدته ومعاونيه الأقربين، والتي اكتشف الخميس الماضي ان احدهم، وهو قهرمانه الايطالي «باوليتو»، قد جمّع في شقته بحاضرة الفاتيكان «صناديق من الوثائق السرية الخاصة بالبابا ومعدات متطورة للتصوير والاستنساخ». داهمت قوات درك الفاتيكان (الحرس السويسري)، برئاسة قائدها، شقة القهرمان الخائن -«الغراب» وفق الاصطلاح الفاتيكاني- وألقت القبض عليه لتوجه اليه تهمة «سرقة مراسلات رئيس دولة»، وهي توازي تهمة الاعتداء على أمن الدولة التي تصل عقوبتها الى السجن ثلاثين عاماً. وفيما كان المحققون يستنطقون الرجل الذي كان يوقظ البابا كل صباح ويرافقه طيلة النهار فيقدم له الفطور والغداء والعشاء ويرافقه خلال نزهته في الحديقة ويختار له الشاي المعطّر بالنعناع قبل أن يأوي الى فراشه، كان المراقبون يطلقون العنان للتحليلات، التي تدور حتى الساعة حول احتمالات ثلاثة: أن يكون الابتزاز المادي هو الهدف من اختلاس مراسلات البابا السرية، أو ان يكون «باوليتو» الذي يُعرف عنه تدينه الشديد قد تصرف بدافع مساعدة الكنيسة على كشف حالات الفساد المالية والجنسية المستشرية التي تلقي بظلالها الثقيلة منذ فترة على حاضرة الفاتيكان، أو ان يكون القهرمان مجرد كبش محرقة وأداة بيد احدى الفصائل المناهضة لأمين سر الدولة (وزير الخارجية) الكاردينال برتوني احد اقوى المرشحين لخلافة البابا راتزينغير الذي سبق وأنذر في مقابلة/ كتاب منذ عامين، أنه «عندما يتيقن البابا من انه بات يتعذّر عليه ، جسدياً وروحياً، أن يفي بالمهمة الملقاة على عاتقه، من حقه -وأحيانا من واجبه- ان يستقيل». فضيحة القهرمان جاءت بعد اسبوع من فضيحة اخرى لم تكتمل فصولها بعد، عندما قرر مجلس ادارة مصرف الفاتيكان اقالة رئيسه بعد اقل من عامين على تعيينه مكلَّفاً مهمة اساسية هي ضبط الاجراءات المالية ومكافحة الفساد، الذي كان آخر عناوينه عملية ضخمة لغسيل الأموال. وكانت احدى الصحف الايطالية التي اشتهرت بجدية تحقيقاتها، كشفت منذ شهرين ان احد الكرادلة وجّه رسالة الى البابا بنيديكتوس يبلغه فيها ان اسقف باليرمو (صقلية) قال في لقاء خلال زيارة له الى الصين: «ان البابا سيموت في غضون اثني عشر شهراً». روى لي مرة أحد المعاونين المقّربين من البابا يوحنا بولس الثاني امضى في خدمته خمسة وعشرين عاما، أن البابا البولندي سئل مرة: كم عدد الذين يعملون في الفاتيكان، فأجاب: النصف تقريباً. أحداث الفترة الاخيرة في الفاتيكان تستحضر ما عاناه البابا السابق لضبط التجاوزات المتمادية في السدة الرسولية التي كانت دائماً مسرحاً لصراعات خفية بين مخابرات الدول الكبرى ودوائر النفوذ الدينية وغير الدينية. وهي تبيّن ان تلك الإجابة لم تكن من باب الدعابة، بل تؤشر بمرارة وسخرية الى ماذا يفعل «النصف الآخر». وليست معاناة البابا الحالي بأقل من معاناة سلفه عندما تدفعه الفضائح الاخيرة للخروج عن تحفظه المعهود ليقول في عظة الاحد الماضي في كاتدرائية القديس بطرس: «ان الجشع والريبة يتملكان النفوس وكأننا نستحضر عهد بابل... الريح تعصف ببيت الرب، لكنه لن يتداعى».