كثيراً ما تساءل المعنيون في الشأن الديموقراطي في المنطقة العربية عما إذا كانت ولادة حزب ديموقراطي إسلامي عربي يجمع بين تعاليم الدين الإسلامي والمبادئ الديموقراطية تطوراً مستطاعاً. والقصد هنا ليس مجرد تقليد سطحي لما فعلته أحزاب تستلهم مفاهيم دينية وعقائد مسيحية كانت أم بوذية أم علمانية أو اشتراكية أو شيوعية، حيث دمجت فيها هذه المفاهيم مع الديموقراطية. ولكن القصد هنا التساؤل عما إذا كان من الممكن أن تظهر إلى الوجود أحزاب إسلامية عربية تعتنق، عن اقتناع وبسبب خبرات تاريخية، فكرة التزاوج بين الإسلام والديموقراطية، وتجد في النظام الديموقراطي خياراً لا تراجع عنه، وتدافع عنه حتى ولو تخلت عنه بعض الأحزاب الأخرى غير الدينية. بذلك، تقف الأحزاب الإسلامية موقفاً نقيضاً للأحزاب والحركات العربية وغير العربية، التي دخلت السلطة من بابها الديموقراطي، حتى إذا استقرت وتوافرت لها فرصة التخلص من النظام الديموقراطي ومن الشركاء والمنافسين، انقضت على ذلك النظام، ومن ثم على أولئك المنافسين من دون تردد أو رحمة. لم يكن هذا التساؤل ملحاً عندما كانت الفكرة الديموقراطية نفسها موضع شكوك وتحفظات لدى قسم من الرأي العام العربي. بيد أن النقاش والتوقعات الرغائبية حول إمكانية ظهور مثل هذا الحزب تنامت مع انتشار التأييد للديموقراطية في المنطقة مقابل استفحال الاستبداد فيها، واضطلاع الجماعات الدينية بدور مهم ومحوري وتراجع دور الأحزاب غير الدينية في معارضة هذا الواقع الاستبدادي، وتفاقم العجز الديموقراطي في المنطقة بحيث باتت أكثر أقاليم العالم تخلفاً في مضمار الدمقرطة. واستندت التنبؤات المتفائلة بصدد إمكانية قيام حزب إسلامي ديموقراطي إلى الاعتبارين الآتيين: الاعتبار الأول، هو ذلك الكم المتنامي من الإعلانات والبيانات والتصريحات المتعاطفة مع الديموقراطية التي كانت تصدر عن بعض القيادات الإسلامية. وجاء قسم وافر من هذه المواقف على ألسنة زعماء جماعة «الإخوان المسلمين»، فاستأثرت بمقدار واسع من الاهتمام نظراً إلى أنها الأقدم والأرسخ والأقوى والأوسع انتشاراً في المنطقة العربية. وساهمت هذه المواقف في تشجيع النظرات المتفائلة بإمكانية تحول الجماعة إلى حزب ديموقراطي إسلامي، ومن ثم في إذكاء التفاؤل بمستقبل الديموقراطية في المنطقة. فقد وصف المرشد العام الرابع ل «الإخوان» محمد حامد أبو النصر النظام الديموقراطي، في حديث مع مجلة «المصور» بأنه «أكثر النظم الوضعية تحقيقاً للحرية» و «المعبّر بصدق عن إرادة الأمة»، فكان أكثر رأفة بهذا النظام من ونستون تشرشل الذي وصفه بأنه أقل الأنظمة السياسية سوءاً! ولم تكن هذه المواقف مجرد زلة لسان إذ كثيراً ما أكد زعماء «الإخوان» هذا المنحى في التفكير وفي الالتزام قبل «الربيع العربي» ووصولهم إلى السلطة وبعد هذه الأحداث المصيرية. فإبان زيارته الأخيرة نيويورك، أكد الرئيس المصري محمد مرسي أن «الإخوان» المصريين ليسوا في وارد إنشاء دولة دينية بل دولة مدنية تعامل جميع المواطنين على قدم المساواة، وأنهم يعتبرون أن الشعب هو مصدر السلطات. وصدرت عن مفكرين وعن أحزاب إسلامية حاكمة أو شريكة في الحكومات مواقف وتصريحات مماثلة شدّدت على التزامها بالديموقراطية، وعلى مفاهيم الحرية والمساواة والعدالة. الاعتبار الثاني، هو ما اعتبره بعض علماء الاجتماع وخصوصاً موريس دوفرجيه نهجاً عاماً يسيّر الأحزاب التي تعتنق عقائد دينية أو دنيوية تتعارض مع الديموقراطية ويحولها إلى أحزاب ديموقراطية. فهذا التغيير يتم عادة بتأثير من الانغماس في العمل الانتخابي والحياة البرلمانية التي تطبع الأحزاب بطابعها مهما كانت محصنة ضد «الوباء» الديموقراطي. ومما يذكر هنا أن النواب من الحزب الشيوعي الفرنسي الذي كان ينكر الديموقراطية النيابية، كانوا عند بداية ولوجهم البرلمان، يتمسكون بموقفهم المناهض للعمل البرلماني من طريق الامتناع عن التصويت أو حتى الاشتراك بالمناقشات، ثم ما لبثوا أن انغمسوا في النشاط البرلماني وأن ساهموا في قيام «الشيوعية الأوروبية» التي تبنت الديموقراطية. في السياق نفسه، يتنبأ عميد كلية الدراسات الدولية المتقدمة في جامعة جونز هوبكنز في الولاياتالمتحدة ولي رضا نصر الأميركي الجنسية والإيراني الأصل بأن الأحزاب الإسلامية في الدول العربية وغيرها ستنتقل إلى صف الأحزاب الديموقراطية بحكم ضرورات واقعية وليس نتيجة تغييرات معيارية ومبدئية. ويعدد نصر ثلاثة عوامل أهمها الحاجة إلى كسب تأييد الأصوات الوسطية في الانتخابات والتي تشكل العنصر المرجح في حسم التنافس الانتخابي. ويقدم نصر حزب «العدالة والتنمية» التركي كمثل على الأحزاب الإسلامية والعقائدية التي حققت نجاحاً كبيراً لأنها استهدفت الأصوات الوسطية العائمة وتمكنت من اجتذابها، إلا أنه يقول إن هذا النجاح لم يكن ليتحقق لولا أن «العدالة والتنمية» تمكن من إقناع أولئك المقترعين بأنه يلتزم حقاً الديموقراطية. ولا ينسى نصر هنا أن الحزب حقق نجاحاً مزدوجاً على هذا الصعيد إذ زاد من حجم ضغوطه على الاتحاد الأوروبي لقبول عضويته فيه. ويرى نصر أن هذا العامل الأخير لن يؤثر في الأحزاب الإسلامية في المنطقة العربية ولن يكون حافزاً لها على تبني الديموقراطية، أما العامل الآخر وهو السعي إلى كسب تأييد الوسط والفوز في المنافسات الانتخابية فسيبقى عاملاً يؤثر في هذه الأحزاب حتى تتحول إلى أحزاب ديموقراطية حقيقية. مقابل هذه النظرات المتفائلة، تقول القيادات المعارضة والمنافسة للأحزاب الإسلامية الحاكمة إن هذه الأحزاب تخلت كلياً عن تعهداتها ووعودها بصدد احترام الديموقراطية، وإنها عندما كانت تؤكد التزامها الديموقراطية، إنما كانت تفعل ذلك من أجل التعجيل بزوال الأنظمة المستبدة القائمة والحلول محلها. ومن المؤسف أن هناك مؤشرات، مثل موقف «الإخوان» في مصر من اختيار الرئاسات الأولى وتشكيل الهيئة التأسيسية وصوغ مسودة الدستور، تدل على أن هذه الانتقادات تتفق مع الواقع، حيث بدا أداء «الإخوان المسلمين» كأنه دليل حاسم على ميلهم إلى الاستئثار بالسلطة، وإلى تهميش الآخرين والتقليل من دورهم في العهد الجديد. في ظل هذه المتغيرات يبدو أن الرهان على تحول «الإخوان» في مصر إلى حزب ديموقراطي إسلامي لم يكن دقيقاً، وكان يعبر عن نظرة رغائبية لدى بعض المعنيين في الشأن الديموقراطي. وللأسف فإن موقف «الإخوان» في مصر من هذه المسألة انسحب على صورة جماعات إسلامية أخرى في مصر وفي المنطقة العربية مع أنها أقرب إلى الاعتدال ومراعاة قواعد العمل والأعراف الديموقراطية من «إخوان» مصر، فهل يبقى للاعتبار الثاني من أهمية على صعيد قراءة مستقبلية لموقف الأحزاب الإسلامية من الديموقراطية؟ يقوم الاعتبار الثاني، كما أشرنا أعلاه، على أن من الممكن أن تتحول الأحزاب الإسلامية إلى أحزاب إسلامية ديموقراطية فيما لو كانت هناك حياة برلمانية حرة بحيث تتنافس الأطراف على كسب أصوات المواطنين في أجواء سلمية وتنافسية، ويعمل مجلس النواب نفسه في أجواء طبيعية تخضع لقوانين وأعراف برلمانية قديمة. ولكن السؤال الكبير هنا هو: هل يفسح «الإخوان» المصريون المجال أمام قيام حياة برلمانية حرة توفر لجميع الأحزاب والجماعات السياسية الحقوق المتساوية في كسب أصوات الناخبين وتضمن تداول السلطة؟ استطراداً هل يترك هذا التطور على الصعيد الإجرائي بصماته الواقعية على عقائد الأطراف المعنية، فيتحول «الإخوان» في مصر، بصرف النظر عن الضوابط العقائدية المضمرة، إلى حزب إسلامي ديموقراطي بحكم الضرورة والمصلحة والواقع؟ تدل المؤشرات التي أشرنا إليها أعلاه إلى أن «الإخوان» يميلون إلى ضبط آليات التنافس السياسي وقوننتها وهندستها على نحو يؤدي إلى تعطيل المفاعيل الفكرية والمعيارية التي توقعها دوفرجيه ونصر وغيرهما من أنصار الدمقرطة الواقعية. ويمكن «الإخوان» أن يحققوا قسماً كبيراً من هذه الغاية وحتى من دون أن يلجأوا إلى ممارسة القمع الذي مارسه النظام السابق الذي لم يمتلك أياً من الأرصدة المتوافرة لهم، وأن يبسطوا هيمنتهم على الحياة العامة بمجرد إمساكهم مفاصل الدولة وشرايينها الحية وبالاستناد إلى ما يمتلكونه من موارد بشرية ومادية ضخمة. عندها، بدلاً من التنافس على كسب أصوات الوسط وأصوات المستقلين والأصوات العائمة في الساحة الانتخابية، وبدلاً من تحقيق التطور العقائدي والسياسي الذي يضمن ل «الإخوان» وللمصريين أن يمارسوا التنافس السياسي وأن يختاروا ممثليهم في السلطات العامة بملء الحرية وأن يعبروا عن أنفسهم بصوت عال، فإن الخوف هو أن يتحول التنافس إلى صراع مرير على السلطة بأدوات العنف والقهر والتدمير. * كاتب لبناني