الوعي بالإسلام المعتدل بدأ يأخذ مكانه لدى الديبلوماسية الأمريكية منذ بداية التسعينات، حينما تمكن الإسلاميون لأول مرة من الوصول للسلطة في بعض البلدان العربية والإسلامية. وحيث كان ملف الحركات الإسلامية -الأولى في الظهور- حكراً على ال CIA، نظراً لطابعها الراديكالي، والمخاوف المتعاظمة من تأثيرها على الأمن والمصالح الأمريكية. في سبتمبر 2004 أثار حماس الحكومة الأمريكية الشديد لقضية أنور ابراهيم -رئيس الوزراء الماليزي السابق- انتباه الكثير من المراقبين للعلاقات الأمريكية بالحركات الإسلامية. ف أنور ابراهيم هو مؤسس حركة الشباب الاسلامي عام (1971) ولديه حضور طاغ في أوساط الإسلاميين الماليزيين. هذا الاهتمام الأمريكي شمل وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة مادلين أولبرايت، وأعضاء في الكونغرس. وفي وقت كانت بعض الأنظمة تنتظر بفارغ الصبر تحركاً وشيكاً في أمريكا ضد التنظيم الدولي للإخوان المسلمين، وإذ ب بول وولفوتز -مساعد وزير الدفاع السابق/ رئيس البنك الدولي- وهو أحد أهم شخصيات المحافظين الجدد يقوم بالاتصال شخصياً بالهاتف النقال للإسلامي أنور ابراهيم ليقدم له التهنئة بالخروج من السجن - وذلك حسب رواية أنور ابراهيم نفسه لصحف ماليزية. لا يمكن لأي مراقب محايد في المنطقة إلا أن يقر بأن ثمة تغيراً جارياً في علاقات الولاياتالمتحدة بالإسلاميين ف الرئيس الأمريكي جورج بوش كان قد صرح قبل الانتخابات العراقية الأخيرة بأن أمريكا لن تعارض «وصول حكومة إسلامية أصولية في العراق»، هذا التصريح هو الأعلى سقفا -كما يقال- والذي يمنحه رئيس أمريكي كورقة تسوية ممكنة مع الإسلاميين في المنطقة. منذ عام 2004 التقى أكثر من سبعة مسؤولين أمريكيين «أغلبهم من وزارة الخارجية الأمريكية- بدرجات متفاوتة بشكل علني بأحزاب أو جماعات إسلامية ليس في العراق فقط، بل من لقاء السلفيين بالكويت إلى إقامة لقاءات رسمية مع جماعة الإخوان في الأردن، والتي صرح مراقبها العام عبدالمجيد الذنيبات بعد انتشار أمر لقاءاته بالمسؤولين الأمريكيين:« نحن كتنظيم دولي نعقد اجتماعات في العلن وليس في السر». أما في مصر حيث حصل الإخوان المسلمون على أكبر نسبة برلمانية لهم في تاريخ حياتهم السياسية 88 مقعداً من أصل 444 مقعداً في الانتخابات، وبالرغم من التعارك بالأيدي بين الحزب الحاكم وجماعة الإخوان، فإن هنالك أجندة مسكوتاً عنها أخرج إثرها دعاة المجتمع المدني، والإصلاح السياسي ليحل الإخوان بشكل شبه رسمي -ووفق ترتيبات معقولة لدى الطرفين في الوقت الراهن- موقع المعارضة. الإخوان يريدون أكل الطعم الانتخابي لأنهم يراهنون - بحسب إشارة نائب المرشد د. محمد حبيب - بتكتيك مرحلي يمهد لانتقال السلطة، ووصول الإخوان للحكم في مصر في ظل استفادة من المناخ الدولي الراهن، ويمكن قياس هذا التقارب الذي نتحدث عنه في تعليق وكيلة الخارجية الأمريكية في القاهرة باولا فينسكي والتي أكدت قبول الأمريكيين لأي طرف يصل للسلطة بالطريقة الديموقراطية -بما في ذلك الإخوان- تماماً كما حدث في أوكرانيا مؤخراً. الوعي بالإسلام المعتدل بدأ يأخذ مكانه لدى الديبلوماسية الأمريكية منذ بداية التسعينات، حينما تمكن الإسلاميون لأول مرة من الوصول للسلطة في بعض البلدان العربية والإسلامية. وحيث كان ملف الحركات الإسلامية -الأولى في الظهور- حكراً على ال CIA، نظراً لطابعها الراديكالي، والمخاوف المتعاظمة من تأثيرها على الأمن والمصالح الأمريكية في تلك البلدان، فإن وزراة الخارجية الأمريكية بدأت وقت ذاك في لعب دور جديد فيما يخص الموقف الأمريكي تجاه تلك الحركات والتيارات الإسلامية. أول إشارات هذا الاتجاه تجسد في خطاب مساعد وزير الخارجية للشرق الأدنى إدوارد جيرجان في يونيو 1992، حيث حمل هذا الخطاب أول تمييز بين «الجماعات الإسلاموية المتطرفة»، و«الإسلاميين المعتدلين»، متهما إيران والسودان بتمثيل الفئة الأولى الساعية لنشر الإرهاب، ومعلناً تفهم الموقف الأمريكي ل «الإسلاميين المعتدلين». هذا الإعلان -وهو أعلى مستوى في وقته- دفع بكثير من رموز الإسلام السياسي في العالم الإسلامي إلى الاحتفاء به، فهرع راشد الغنوشي زعيم حزب «النهضة» -الأصولي- التونسي إلى الترحيب بهذا الخطاب، ولكن هذا الترحيب لم يدم لأن الموقف الأمريكي تخلى عن هذه المغازلة للزعماء الأصوليين بعد حادثة تفجير مبنى التجارة العالمي عام 1993، إلا أن إدارة كلينتون الجديدة استمرت في تشجيع الحراك الديموقراطي لدى الأحزاب السياسية في الشرق الأوسط دون تمييز ضد الإسلاميين. إشارة صريحة أخرى صدرت عن موقف الخارجية الأمريكية من تيم ريث -أحد مسؤولي وزراة الخارجية الأمريكية- والذي أعرب خلال جلسة استماع في الكونغرس في يوليو 1993، عن تمييز الإدارة الأمريكية بين «الإسلام المعتدل»، و«الإسلام المتطرف»، وأوضح أن: «لا تكون إساءة استعمال هذه الجماعات )الإسلام المتطرف) للإنشاء السياسي الإسلامي التأثيري سبباً لكي نخلط في أذهاننا بين الإسلام والإرهاب، إن مشكلتنا ليست قطعاً مع الإسلام، أو مع الناس الذين يتدينون به». كان لدى الديبلوماسية الأمريكية حجة تبرر ذلك التدخل المتأخر نوعاً ما، فالإحياء الإسلامي الموجود في بلدان إسلامية عديدة لم يكن كله معادياً للعلاقات الأمريكية، وهناك نماذج لدول تتمتع بإسلام شعبي صوفي غير عنيف موجود في بلدان مثل مصر والمغرب، ويتركز أكثر في شرق آسيا حيث أندونيسيا أكبر دولة إسلامية سكاناً، وماليزيا ذات التعدد الطائفي المتجانس. ثم هناك تركيا العلمانية والتي هي جسر نحو أوروبا بتعداد سكاني مسلم وموقع جيوسياسي هام. ما يجمع بين هذه الدول كما رآه عدد من واضعي السياسية الخارجية الأمريكية في فترة الرئيس بوش الأب هو أنها دول تم تحديثها بواسطة مؤسسات الاستعمار الغربي، ولذلك فهي تتضمن مؤسسات للمجتمع المدني، وأنظمة ودساتير علمانية، أو وضعية توفيقية، وكذلك الإسلام الشعبي فيها هو الإسلام الصوفي وهو بعيد عن السياسية. أما الأحزاب السياسية فهي إما علمانية، أو إسلامية ليبرالية. هذه الدول جسدت للأمريكيين فرصة لمشروع علاقات عامة، يتم فيها تسويق هذه النماذج غير المصادمة للمصالح الأمريكية لدى الأنظمة الشرق-أوسطية، والتي رغم عدم معارضتها الحقيقية للعلاقات الأمريكية إلا أنها تعزز، وتدعم في الخفاء الرفض الشعبي للسياسية الخارجية الأمريكية عبر تحميلها أسباب الفشل الاقتصادي والسياسيي في الداخل. وجدت السياسية الخارجية الأمريكية ضرورة العمل على أن تتأثر المجتمعات الشرق-أوسطية التي تخدرت تحت مد أصولي إسلامي من بداية السبعينات بالنماذج الأكثر تحديثية وليبرالية من دول العالم الإسلامي. وأمر آخر كان لا يقل أهمية، وهو السعي في أن تتحول الجماعات الإسلامية المتشددة إلى صورة أكثر ليبرالية وتحديثاً. فهناك مشاركة كبيرة لأحزاب وجماعات إسلامية في أكثر من بلد إسلامي بشكل سلمي. ففي كل من أندونيسا، ماليزيا، بنغلاديش، باكستان، الكويت، الأردن، تركيا، المغرب أحزاب إسلامية منخرطة في العمل السياسي بدرجات متفاوتة. حزب «العدالة والتنمية» المغربي قد قبل في 1998 بدخول البرلمان ذي الدستور العلماني الإسلامي، حيث ينص قانون الجمعيات السابق في المغرب الذي يعود لعام 1958 على منع الانتماء إلى الجمعيات السياسية على أساس ديني أو عرقي أو طائفي، وقد قبل حزب العدالة والتنمية من خلال مهندس إدماج الإسلاميين في الحياة السياسية المغربية عبدالكريم الخطيب: أن يؤسس حزب «العدالة والتنمية» على أساس المواطنة والانتماء الوطني. عندما طرح الأمريكيون مشروع «الشرق الأوسط الكبير» -في السنتين الأخيرتين- كان هدفه إيصال رسالة للأنظمة العربية حول التصور الأمريكي للتغيير في المنطقة، وهو مزيج من الضغط على تلك الحكومات باتجاه تغيير الأوضاع السياسية القائمة لأنها بحسب تصور الأمريكيين مسؤولة عن تردي الأوضاع الاجتماعية المؤدية للعنف. ألقى قادة الحركات والجمعيات الإسلامية سمعهم للهمهمة الأمريكية رغم أنها مبهمة، صحيح أنه لم يطرأ تغيير علني في خطاب الحركات الإسلامية المعادي لأمريكا شعبياً إلا أن هنالك إشارات وتغييراً حتى بالنسبة لمن هم محسوبون في أقصى اليمين تجاه إمكانية التعامل مع أمريكا سياسياً، ويمكن ضرب أمثلة على ذلك فقط خلال هذا الشهر يمكن قراءة تصريحين مثيرين للانتباه، أحدهما من مسؤول في جبهة الإنقاذ الإسلامية بالجزائر هو أنور هدام، والتصريح الآخر لسلفي سوري معارض هو محمد العبده وكلاهما تحدثوا لموقع «الإسلام اليوم» - الذي يشرف عليه الشيخ سلمان العوده، أنور هدام ورغم انتمائه لجبهة الانقاذ الجزائرية والتي طالما حملت أمريكا مسؤولية الانقلاب على انتخابات 1991 يقول ومن واشنطن بأن على الإسلاميين في المنطقة أن يدركوا تغير توجهات السياسية الأمريكية، وأن عليهم أن يستفيدوا من هذه اللحظة التاريخية، وكما يقول أنور الهدام فإنه :«مهما قيل عن الإدارة الأمريكية الحالية، فإنه يبدو أنها المرة الأولى التي بدأ الحديث فيها عن جذور التطرف ليس فقط في الجانب الاجتماعي ولكن أيضا في الجانب السياسي .. إدارة بوش الثانية )تدعو) إلى تغيير جذري في سياسة الولاياتالمتحدةالأمريكية تجاه العالم الإسلامي، تلك السياسة التي لم تتغير طيلة الستين سنة الماضية». من جانب آخر يكشف محمد العبده عن تغيير براجماتي واضح في موقف الإسلاميين السوريين حيال الضغط الأمريكي على سوريا، فالعبده السلفي -وهو تصريح مثير بالنسبة لسلفي سوري- يتهم سوريا بتهريب المقاتلين عبر الحدود، ويقول بأن: «هناك نظاماً دولياً عالمياً، وأمم متحدة تحاسب أخطاء الدول، فإذا كان هذا هو مبرر سوريا للمراوغة فهم لا يواكبون الأحداث والمتغيرات ..، وهم في الحقيقة لم يتعاونوا حتى الآن تعاوناً كاملاً مع لجنة التحقيق» ... كلام غريب جداً على السلفيين في سوريا، فهم اليوم ولأجل لوازم سياسية يؤمنون بدور الأممالمتحدة والنظام العالمي، وهذا مؤشر خطير يعكس واقع أن الإسلاميين الذين لطالما بنوا صورتهم على معاداة أمريكا، واتهموا الأنظمة العربية بالعمالة لأمريكا هاهم اليوم يرغبون لعب الدور ذاته الذي كانت تلعبه الأنظمة. طبعاً، لا أحد يقول داخل أوساط الحركة الإسلامية بأن التعاون مع أمريكا يجب أن يكون بدافع حسن النوايا، بل هنالك رغبة في استغلال الأوضاع الراهنة، فهم يدركون أن بعض الأنظمة العربية قد تلجأ لاستخدامهم لسببين: أولهما، لكي يستخدموا شعبيتهم الجارفة لسحق دعاة المجتمع المدني من الليبراليين وإخراجهم خارج اللعبة السياسية. ثانيهما، أن تلك الأنظمة تود تخيير أمريكا والغرب ما بينها وما بين البديل الإسلامي الأصولي. الأمريكيون من جانبهم يدركون مجريات ما يدور، ولكنهم يتظاهرون بعدم الاكتراث، بل أحياناً يلجأون إلى القول بأنهم على استعداد للتعامل مع تغيير من هذا النوع، وهو كلام في الحقيقة غير صحيح، لأن نموذج حزب العدالة الإسلامي التركي لا يتكرر كثيراً هذه الآونة، بل إن البديل الإسلامي قد لا يكون مشجعاً في الحقيقة، خصوصاً حينما نتأمل كيف أقصى اليمينيون في الحركة الإسلامية أية أصوات لديها استعداد لتقديم تنازلات تمس المجمل العقائدي للحركية الإسلامية وما حدث في جماعة الإخوان المصرية خلال العشر سنوات الأخيرة، أو جماعة حماس الفلسطينية خير شاهد. الإسلاميون من جانبهم ملتزمون بآداب اللعبة الانتقالية حتى الآن، وهم يدفعون بحمائمهم للظهور رغم تأكيدهم على استمرار النهج بين الأتباع في الداخل، هذا التكتيك السياسي المؤقت لم يلفت فقط انتباه أولئك الواقفين خارج أسوار الجماعة، بل دفع ببعض أعضاء الحركية الإسلامية ممن لم ترضهم المناورات السياسية إلى رفض ذلك. ومن يمين الطيف السياسي إلى يساره تقرع أجراس الانذار، فخارطة المنطقة بإمكانها أن تتغير بسرعة، واللاعبون بإمكانهم تبديل الأدوار والعقائد السياسية بأسرع من إفراغ صندوق الانتخاب، أما الشعوب ذات الإرث الثقافي الذي ولى زمنه فهي تعيد أخطاء الخمسين سنة الماضية في ليلة انتخاب واحدة، وهي بعد ذلك بإمكانها التأقلم مع مرحلة استبدادية ثانية، ولكن هذه المرة بنكهة دينية. [email protected]