تعتبر مسرحية «الأم الشجاعة وأولادها» التي ألفها الكاتب والشاعر الألماني برتولت بريخت (1898-1956) من أبرز الأعمال الكلاسيكية في تاريخ المسرح الحديث ومن أكثر الأعمال تقديماً على المسارح الخشبات العالمية. ويعود ذلك إلى حبكتها المؤثرة التي لا يترك الزمن فوقها بصماته والتي لا تزال تخاطب العقول على رغم مرور أكثر من 75 سنة على تأليفها. ويروي بريخت في المسرحية، حكاية أم تسعى إلى البقاء على قيد الحياة وتأمين لقمة العيش لأولادها الثلاثة مطلع القرن السابع عشر، وفي ظروف الحرب التي دامت ثلاثين سنة وهزت أوروبا الشرقية وألمانيا بشكل عميق وطويل المدى. وتفقد المرأة الأولاد الثلاثة ومن ثم حبيب القلب بسبب الحرب وينتهي بها المطاف وحدها بائعة متجولة فقدت أعز ما كانت تملكه ورشدها أيضاً إلى حد ما. وعرضت المسرحية في باريس على مدار 60 سنة ماضية مرات ومرات تحت إشراف ألمع المخرجين المخضرمين الذين منحوا دور الأم في كل مرة إلى ممثلة من الدرجة الأولى لتبقى هذه التجارب في سجل تاريخ المسرح الفرنسي في شكل أو بآخر على رغم اختلافها الجوهري في أسلوب الإخراج والمعالجة. وها هي فرقة «برلينر أنسامبل» التي أسسها بريخت شخصياً في برلين عام 1949، والتي لا تزال تنعم بسمعة أول فرقة ألمانية بفضل جديتها وجودة مستواها على الصعد كافة، تحضر إلى باريس لتقدم باللغة الألمانية (مع وجود ترجمة بالفرنسية أعلى الخشبة) مسرحية «الأم الشجاعة وأولادها» فوق خشبة «تياتر دو لا فيل»، ومن إخراج الألماني كلاوس بيمان خليفة بريخت في إدارة فرقة «برلينر أنسامبل». وقد يكون هذا العنصر هو الذي جعل من الأمر حدثاً استثنائياً تحمس له الجمهور المحب للمسرح الكلاسيكي أسوة بأهل الإعلام الذين راحوا ينتظرون سهرة الافتتاح بلهفة ملموسة بدت على وجوههم ومن خلال حديثهم مع بعضهم بعضاً في اللحظات السابقة لرفع الستار في تلك الأمسية. عبقرية المؤلف وربما أن اللهفة إذا كانت بهذا المستوى لا تجلب سوى خيبة الأمل، فما حدث عقب بدء العرض لا علاقة له بما سبقه، إذ أن المخرج بيمان سعى إلى تقديم العمل بأسلوب يجعله يطابق الظروف التي تعيشها المجتمعات الأوروبية في الزمن الحالي، معتقداً أنه بهذه الطريقة سيمس وجدان المتفرج أكثر وأكثر، ومتجاهلاً بالتالي عبقرية المؤلف الذي كتب النص أساساً بحيث لا يتأثر بالفترات الزمنية ويؤثر في الجماهير من دون أن يتم التحوير في أدنى حرف فيه أو التغيير في المشاهد مثلما هي موصوفة أصلاً. وهكذا تبدو «الأم الشجاعة وأولادها» مثلما هي مطروحة في باريس، ضعيفة المستوى، مثيرة للملل إلى حد ما إذا استثنينا الأداء البارع الذي تقدمه الممثلة الألمانية كارمن ماجا أنطوني في دور الأم تحديداً، فهي عظيمة فوق الخشبة تهز كيان المتفرج بتعبيرات وجهها وبصوتها الخشن القوي القادر أيضاً على التحول إلى نبرات ناعمة محلقة في الجو ومسيلة لدموع الحضور الذي يصفق لهذه الفنانة بحرارة في ختام العرض، إلا أنها على رغم موهبتها، تبقى عاجزة عن الرفع من مستوى العمل ككل خصوصاً من الناحية الإخراجية.