نظرة بعيون فنية تشكيلية معاصرة الى الفن المصري القديم اقترحتها قناة «بي بي سي» لتعيد بها قراءة موروث ثقافي يمتد لأكثر من ستة آلاف سنة قبل الميلاد، من خلال زيارات قام بها الصحافي الفني المختص ألستر سوك الى أرض مصر، صوّر وحلل المنجزات أو كما سيسميها الكنوز النادرة التي تؤشر الى مراحل تطور الفن التشكيلي في مصر وتأثيراته على العالم. تُمَيز الثلاثية الجديدة نفسها عن بقية الوثائقيات والبرامج الكثيرة عن مصر وحضارتها بالربط بين مقتنيات المتاحف وبين زيارات ميدانية حية الى المناطق التي شهدت نبوغ الرسامين المصريين فيها، إضافة الى إجراء مقابلات مع تشكيليين ورسامين مصريين معاصرين ومعهم خبراء في «المصريات» وعلماء آثار ساهموا جميعهم في تحليل كل مرحلة من مراحل تطور ذلك الفن، والتي ستعمق مستوى «الثلاثية» التي أرادت القيام بمسح دقيق لمنجز تشكيلي هائل، ربما لم ينتبه اليه الناس، أثناء زيارتهم مصر لمشاهدة آثارها، لأن الدهشة غالباً ما تأخذهم وتنسيهم التدقيق في روائع الفن، وعليه سمّى البرنامج ثلاثيته ب»كنوز الفن المصري المنسية». على خطى الرحالة الإنكليزي ويليام بانكز، سيسير الصحافي ستوك، ومن بيته الذي جمع فيه تحفاً تشكيلية نادرة ولوحات قديمة رسمت باليد أتى بها خلال وجوده في مصر إبان القرن التاسع عشر، ونقل خلالها أحد الأعمدة الغرانيت الكبيرة ونصبه في منطقته. سيعلن أنه سيعيد النظر الى اللوحات والرسوم القديمة ليس بعين آثاري بل بعين عاشق للفن. ستكون الصحراء الغربية أولى محطاته الى مصر حيث مازالت الصخور تحمل بدايات خطوط الفن التشكيلي المصري وتعكس الثقافة «الباشندية» التي يقدر عمرها بين ستة آلاف الى سبعة قبل الميلاد ورسومات شعبها التي اعتبرها الخبراء الذين صاحبوا معد البرنامج «تؤسس» للفهم الإستكشافي لعلاقة الضوء والظل في الفن التشكيلي. بعدها يزور القرى المجاورة لضفاف النيل ليتحدث عن تأثيرات النهر في الثقافة المصرية ويربط بين فيضاناته والطمى والطين على اليابسة وبين استثمار الناس لها في تلوين وصناعة الخزف والأواني. يتوقف البرنامج عند مرحلة مثلت فيها الرسومات على «جرار الماء» نقلة مهمة في تاريخ الفن التشكيلي حيث الطبيعة بما فيها من حيوانات وزرع معكوسة على النقوش اليدوية التي كان قدماء المصريين يرسمونها عليها. ستتطور هذه الرسومات البسيطة الى مستوى أكثر تعقيداً بعد ثلاثة آلاف سنة ليدخل الفن المصري مرحلة جديدة تؤرخها كنوز ما يسمّى ب «مدينة الصقر» التي اكتشفها الآثاريان غويبلي وغرين عام 1897. ثم تأتي المقابر الفرعونية لترسخ تماثيلها وجوداً تشكيلياً لفن النحت عبّر عنه مكتشفها الأول الفرنسي أغسطس ماريت بوصفه تفاصيل دخوله احدها: «عندما دخلت القبر شعرت فجأة بالرعب فقد رأيت عيون بشر مفتوحة تحدق بي». عن هذه المرحلة يقول الفنان آدم حنين: «مرحلة المملكة القديمة لها معنى كبير، انها الأهم كونها أسست لما يسمّى ب»الأسلوب المصري» في الرسم. فيها تغيَّر الشكل الطبيعي، الى الشكل الأسلوبي، والذي تأثرت به شخصياً». يتوقف الوثائقي طويلاً عند الأهرامات بوصفها متاحف فنية تعكس أفكار الفراعنة ونظرتهم الى العالم. وفي التفاتة الى المقابر المحيطة بها وبما فيها من رسومات وتماثيل تشير الى العاملين وبناة الأهرامات لا الى الملوك فحسب، وعن هذا يقول الأثاري المصري زاهي حواس: «اكتشاف موجودات المقابر الجانبية يعد من بين أهم الإكتشافات لأنه وللمرة الأولى تمكنا من التعرف الى حياة العمال الذين بنوا الأهرامات عبر الرسومات والمقتنيات التي تركوها وراءهم». يدقق البرنامج في منجزات كل مرحلة تاريخية ويحلل المعنى الفني لها وما تمثله من نقلات ستؤثر على الفن التشكيلي لمراحل لاحقة من عمر البشرية. فالنحت مثلاً عرفته الحضارات القديمة كلها، لكن نوع المواد المستخدمة فيه في مصر هو ما يدعو الى الإعجاب. فالملكات والملوك الفراعنة وصلوا الينا بفضل قوة ونوع الصخور والمعادن المستخدمة في تجسيدهم تشكيلياً ونحتياً، وزيارته المتكررة لمتحف الآثار المصرية تقدم برهاناً على عظمة المنجز وبخاصة النحت الذي خصص له وقتاً جيداً ليشرح قوة التعبير التي كانت فيه وبخاصة النحت بالبرونز وعلى الحجر الأسود، كما يقول النحات المصري المعاصر ناتان دوست: «معظم التماثيل القديمة من معدن البرونز، ولا أعرف شخصياً كيفية استخدامه على حجر الغرانيت، ولكن وفي كل الأحوال لو وضعت نفسي مكان النحات المصري القديم فسأطرح على نفسي أسئلة كثيرة قبل إنجاز عمل يريد بقوة تجسيد الفرعون. هذه مهمة صعبة جداً، ما يولّد عندي إحساساً بالغيرة وحماسة في الوقت ذاته للعمل، لأنه يطرح بدوره أسئلة عليّ، كفنان مصري وما هو دوري في الحفاظ على هذا الميراث الضخم؟». ميراث ضخم عرض بأسلوب درامي جمع بين توفير متعة المشاهدة ومعرفة الكثير عن الكنوز الفنية لمصر القديمة وتفاصيلها المدهشة.