كتب الدكتور عائض القرني مقالة عن المتاجرة بالدماء في قضايا القتل العمد، وأعلن فيها ندمه على مشاركته في ما ظهر له بعد تجربة أنه بيع للدم في المزاد العلني. ويُشكر على اعترافه بخطأ المشاركة في هذه المتاجرة الرخيصة، التي يمكن تسميتها بصكوك الحرمان، وإن خرجت في أسلوب النداءات الاستغاثية للأثرياء والمحسنين، تستجديهم في دفع ملايين لتحرير رقبة استوجبت قصاصاً، فإما العفو ودفع الملايين وإما القصاص، ثم يبدأ أولياء القاتل - بعد ذلك - حملة إعلامية صحافية لاستعطاف الناس ب«صك الدية المضاعَفَة»، يستحثونهم للتبرع بفضيلة «إحياء النفس»، يذكرونهم بأن من أحيا نفساً فكأنما أحيا الناس جميعاً، ويُخيل للناس أن نفاسة هذه النفس في قدر ما يحرّرها من حد السيف، وبسبب غيبة الوعي والفقه وجدنا من يستجيب لهم وتستعطفه صكوكهم، طمعاً في ثواب «إحياء النفس»؛ لكأنما لم تبقَ نفسٌ تُحيا إلا هذه النفس! ولم يتساءل هؤلاء: كم من نفس ستظل تشارف على الهلاك، وتجاهد المساومة على شرفها وكرامتها، وتعاني مسكنة الفقر وذلته محرومة من آلاف يسيرة ليست بشيء أمام هذه الملايين المجموعة لنفس واحدة لم يُحكم عليها ظلماً، ولا عدواناً، وإنما سفكت دماً معصوماً فاستوجبت قصاصاً؟! لقد كان الأولى أن تسمى هذه الصكوك بصكوك الحرمان؛ لأنها حرمت كثيراً من المعوزين سخاء واسعاً استُنزِف لتحرير رقبة القاتل. لقد صدرت قبل أعوام موافقة خادم الحرمين الشريفين على توصيات تمنع إقامة المخيمات واللوحات الإعلانية التي تعد لجمع التبرعات للعفو عن القصاص، كما تشمل ضرورة منع القاتل أو ذويه من استخدام أية وسيلة إعلامية لجمع تبرعات لقيمة الصلح. وحددت التوصيات جملة من الضوابط لتنظيم عملية جمع المبالغ المالية للصلح في العفو عن القصاص. وقضت بتعميم لجان إصلاح ذات البين في جميع إمارات المناطق للإشراف على تنظيم اجتماعات لممثلي ذوي الشأن في التفاوض أو الصلح. وكنا نأمل أن يقضي هذا القرار على مزادات الدم التي كانت مفسدتها راجحة على مصلحتها، ولم تكن مفسدة واحدة بل جملة مفاسد، فمنها: أن فيها استنزافاً لتبرعات المحسنين؛ إذ تجمع ملايين من أجل نفس واحدة؛ لتُترك آلاف الأنفس قد قصُر دونهم إحسان المحسنين، هم أولى بهذه الأموال الطائلة من ذلك القاتل عمداً وعدواناً. ومن مفاسدها التي ظهرت لنا في لغة بعض محرري الصحافة الموكل لهم حملاتها الإعلامية؛ إذ أظهروا القاتل للناس في صورة المخطئ الذي لا يستحق القصاص، فهو قد قتل بغير قصد ولا عدوان، ونحو ذلك من الأساليب التي تُظهر القضاء في صورة غير نزيهة، ويشي بتهمة مبطنة للقضاة بأنهم متحيفون في حكمهم، فلا يفهم القراء من هذه اللغة إلا أن القضاة قد حكموا على الجاني بما لا يستحقه، وهي طريقة في الاستعطاف رخيصة مشوّهة. كما أن لهذه الصكوك سماسرة يُطمعون ذوي القتيل في عشرات الملايين ثمناً لإسقاطهم للقصاص مشترطين عليهم شطرها، ثم يساومون القاتل وذويه على بعض ما يجمعون! وربما كان السماسرة سبباً في اتساع ظاهرة مزادات الدم، فكان إغلاق هذا الباب وتأطيره بالأطر الشرعية التي تدرأ مفاسده وتُبقي ما فيه من مصلحة عملاً مشروعاً، لا تضييقاً لمشروع؛ كما يزعم أصحاب المصالح. ونقول: لئن كان للأولياء حقٌ أن يصالحوا على أضعاف دية قتيلهم، فإن للأمة حقاً أن تلتزم فقه مراعاة الأولى والأحوج في تفريق الصدقات، ولسان حالها يقول لأولياء القتيل: سلوا القاتل وذويه ما شئتم من أضعاف دية قتيلكم، فدونكم أموالهم، فخذوها إن هم بذلوها، فإن وفّتْ فذلك ما كنتم تبغون، وإن قَصُرتْ عن المطلوب، فليس لكم ولا لهم سبيلٌ في أموال المحسنين ما بقي في الأمة فقير أو مسكين، إلا تفعلوه تكن صكوككم - بحق - صكوكَ حرمان لمحرومين يتطلعون لكل نفقة صغيرة أو كبيرة، ويتشوّفون ما في أيدي المحسنين، فمن يجرؤ أن يقطع عليهم الطريق؟ * كاتب سعودي. [email protected] samialmajed@