جرى العرف المصري القديم أن يهدد أحدهم قائلاً: «ليلة أبوكم سودا»، لكن العرف الحديث تحول إلى «ليلة أبوكم بلاك بلوك». واعتاد من يتعرض لتهديد الحكومة ووعيد أذرعتها القانونية، أن ينزوي جانباً ويختفي موقتاً خوفاً ورعباً، لكن الجديد هو أن يرد على التهديد بالتظاهر أمام مَن هدده. ويشير التاريخ القديم إلى أن أبجديات هيمنة الدولة وسيطرة السلطة تعني أنها وحدها تكون صاحبة الحق في إلقاء القبض على الخارجين على القانون والإمساك بالمجرمين، لكن التاريخ الحديث يضع أبجديات جديدة فريدة غريبة، ألا وهي أن ممثلي السلطة والقانون يطالبون المواطنين بضرورة إلقاء القبض على زملائهم من المواطنين إن شكّوا فيهم، أو ارتابوا في لباسهم، أو لم تعجبهم تصرفاتهم. تصرفات «بلاك بلوك» لم تعد وحدها محل جدل عارم وخلاف شائك بين عموم المصريين، بل إن اسمهم محل تحوير وتحويل واجتهاد، فبين «عيال بلاك بوكس» (الصندوق الأسود) كما يؤكد عم حسين المندد والشاجب لهذا التشكيل الأهوج الهادف إلى تعطيل عجلة الإنتاج، و «شباب بلاك بووك» (الكتاب الأسود) كما يشير النجار الملتحي سيد مذيلاً الاسم ب «العياذ بالله»، لأنهم -حسبما يؤكد- مجموعة تعتنق فكراً عقائدياً أسود، وصولاً إلى شباب «بلاك بلوك» (الكتلة السوداء) كما قرأت مدام فيحاء على «غوغل»، وصولاً إلى هيثم وتامر ومحب مجموعة الشباب التي وإن نبذت العنف ونددت بالفوضى، لكنها ترى في «بلاك بلوك» رداً على من ينتهج العنف من قبل القوى الإسلامية التي دأبت على «معايرة» القوى غير المتأسلمة بقلة عددها وضعف شعبيتها وعدم فهمها متطلبات الشارع. متطلبات الشارع المصري التي اختفت معالمها واهتزت ملامحها تحت وطأة دخان الغاز المسيل للدموع على كورنيش النيل في محيط ميدان التحرير وفي خضم الطوارئ وحظر التجوال في مدن القناة وقطع الطرق وإشعال القطارات أعلى الجسور وأسفل الأنفاق، باتت أكثر اختفاء وأعمق اهتزازاً مع ظهور ما يسمى «بلاك بلوك» والتي اختلط مع ظهورها الحابل بالنابل، والحقيقة بالخرافة، والخير بالشر. ولأن ظهور أفرادها لا تختلف كثيراً عن وجوهها، انخرط فرقاء الحوار الوطني في عمليات التدليس والتعريف والنصب والرصد والتضليل والتبجيل ل «بلاك بلوك» وكأن أفرادها باتوا العنصر الفارق والعامل البارز والخط الفارق في المشهد السياسي المتأزم والمتفجر. تفجرت في وجوه القراء ممن يطالعون جريدة «الحرية والعدالة» الناطقة باسم الذراع الحزبية لجماعة «الإخوان المسلمين» الحاكمة صورة «بلاك بلوك» المكسيكية وهم يستعدون لحرق مقار «الإخوان» المصرية، وهي الصورة والتقرير اللذان انتشرا انتشار النار في الهشيم بين أنصار تيارات وأحزاب الإسلام السياسي ومحبيها وداعميها، باعتبارها ناقوس الخطر وفتيل الأزمة وطبول الحرب التي يجري قرعها. وتحت مسمى «قرع في قرع» (تلفيق) تداول غير المتأسلمين الصورة والتقرير ولكن باعتبارهما ناقوس الهزل وفتيل السخرية وطبول الهراء التي يجري ترويجها، لأن الصورة الأرشيفية التي أثارت الهلع والفزع لم تكن إلا ل «بلاك بلوك» مكسيكو سيتي، وليس «بلاك بلوك» كايرو سيتي. «بلاك بلوك» كايرو سيتي ظهر شاب قال إنه أحد أفرادها على فضائية خاصة شارحاً ملابسه: «دي حلة من شارع عبدالعزيز، وده آيس كاب بسبعة جنيه من على الرصيف، وده شيرت ودي عصاية». وبغض النظر عن الحلة والعصاية، وسواء كان الشاب «بلاك بلوك» أو مجرد شاب يرتدي «بلاك»، تبقى علامات الاستفهام والتعجب تحوم حول تلك المجموعات. ويكمن التعجب مبدئياً في تأكيدات عدة من قبل بيان «بلاك بلوك» الأول بأن لا صفحة «فايسبوك» لهم ولا ناطق باسمهم ولا تصريحات للإعلام عنهم ولا ظهور علني لهم. وما هي ساعات حتى ظهر عنصران منهم على قناة خاصة بلباس أسود، وتفكه كثيرون بأن هذا الظهور الإعلامي بالصوت والصورة كان غرضه الإعلام والتأكيد على أنهم لن يظهروا في الإعلام، ولم يدلوا بتصريحات ولن ينبسوا ببنت شفة. وكانت الشفة من نصيب الساخرين والساخرات، فهناك من أصدر دليلاً توضيحياً شارحاً لقرار النائب العام طلعت عبدالله الذي أمر بضبط أعضاء «بلاك بلوك» وإحضارهم، وناشد المواطنين القبض على أي شخص يشتبه في انتمائه إلى هذه المجموعة. بعضهم أوضح متفكهاً: «لو لابس خوذة يبقى أمن مركزي، لو لابس كوفيه يبقى بلاك بلوك منعاً للخبطة»، وآخرون فندوا مواصفات «بلاك بلوك»، فهم تارة «شباب جمعية جيل المستقبل» التي أسسها نجل الرئيس السابق جمال مبارك، وأخرى «مسيحيون يهدفون لهدم الإسلام»، وهم أيضاً «فوضويون غايتهم تفتيت الدولة»، كما أنهم «مأجورون» من قبل «جبهة الإنقاذ الوطني» المعارضة لضرب الحكم الإسلامي، وهم كذلك شباب عشوائيات «يتلقون أموالاً من دولة خليجية». وهناك من يجتهد لتوحيد الصفوف، فبعد إعلان عنكبوتي عن تشكيل «وايت بلوك» من قبل قوى إسلامية للرد على «بلاك بلوك» العلمانية، اقترح البعض خلط بعضهما ببعض للخروج ب «غراي بلوك» (الكتلة الرمادية) لتقريب وجهات النظر. فيما تساءلت حائرة: «لو رايحة عزاء وارتديت اللون الأسود، قد تلقي صديقتي القبض عليّ وفق مناشدة النائب العام بتهمة أنني بلاك بلوك، ولو ارتديت أبيض فقد أتعرض للخطر من قبل الليبراليين ظناً منهم أنني وايت بلوك. أعزي بإيه؟ موف غامق؟». لكن ليس هناك ما هو أغمق أو أصعب من الوضع الملتبس سياسياً واجتماعياً، والذي تلخصه ردود الفعل الشارعية الإسلامية والليبرالية والكنبوية تجاهها، وموقف السلطة منها، وبدعة النائب العام غير المسبوقة بتخويل المواطنين سلطة قبض بعضهم على بعض بتهمة ارتداء اللون الأسود. فبين غير متأسلمين سائلين عن المعاملة بالمثل في ما يختص بحصار المحكمة الدستورية العليا، وحفلات الشواء على أبواب مدينة الإنتاج الإعلامي من قبل أنصار المحامي السلفي المثير للجدل حازم صلاح أبو إسماعيل، وهجوم محبي «الإخوان» على المتظاهرين في مربع الاتحادية ووقائع التعذيب وإلقاء القبض والتحفظ على جبن نستو ماركة «يا معفنين» يأكلها الثوريون، غرد آخرون بأن «الخطر الحقيقي يكمن في من عقولهم بلاك وقلوبهم بلوك». لكن «الإخوان» وحلفاءهم ومحبيهم يظلون على الطرف الآخر، فهم مازالوا يبنون مصر ويرزعون الأشجار ويعالجون المرضى ويبيعون الشاي والسكر والزيت الحكومي بأسعار مخفضة وينشرون أخباراً تؤكد تارة تورط المرشح الرئاسي السابق حمدين صباحي في إبداع الشعارات وتصميم ملابس «بلاك بلوك»، ثم عن تورط الإعلامي وائل الإبراشي في المهام نفسها. غير أن المؤكد أن «بلاك بلوك» أضافوا عنصراً رابعاً إلى منظومة «سمك لبن تمر هندي» السائدة.