إشكاليات عدة باتت تواجه جبهة الإنقاذ المصرية التي تأسست على خلفية أزمة كتابة الدستور. كانت سبقت الجبهة جهود متنوعة لوضع إطار تنظيمي للقوى المدنية في مواجهة السلطة والقوى الإسلامية اللتين تعزفان معاً لحناً واحداً يبدأ من السلطة ويتردد صداه المؤيد والداعم في أوساط الإسلاميين وإن بدرجات متفاوتة، ربما يزايد بعضها على السلطة نفسها ويتجاوزها، ولكنه يقر في النهاية بأن التسامح مع الليبراليين وشركاء الثورة وحده المبرر لقبول المعروض وليس المفترض. وكانت قوى إسلامية عدة أعلنت أنها لا تقبل مشروع الدستور لأنه أقل إسلامية مما تتصور ولكنها سترضى به لكي يمضي الموكب ويتحقق الاستقرار. بدأت محاولات القوى المدنية في تشكيل تكتل واضح ومميز بالتصميم على المضي في طريقه بعد أن ضُربت بقوة هذه القوى في كل صناديق الاقتراع من استفتاء 19 آذار (مارس) 2011 على التعديل الدستوري إلى انتخابات مجلس الشعب في تشرين الثاني (نوفمبر) 2011 والشورى في شباط (فبراير) 2012 ليفرزا برلماناً بغرفتيه حصد الإسلاميون (الحرية والعدالة والنور) أغلبية مقاعده، وإذا كان الشعب تم حله بناء على حكم المحكمة الدستورية العليا فإن الانتخابات الرئاسية بمرحلتيها في آيار (مايو) وحزيران (يونيو) 2012 تصدرها مرشح الإخوان محمد مرسي في المرحلتين ليصل إلى سدة الحكم، وأخيراً استفتاء الدستور في كانون الأول (ديسمبر) 2012، والذي جاء الفرز فيه واضحاً بين تكتل إسلامي خلف قبول الدستور وتمترس لجبهة الإنقاذ وما تمثله لرفض الدستور. ونستطيع أن نلمح في الكتلة المصرية التي تأسست في أيلول (سبتمبر) قبل انتخابات مجلس الشعب توجهاً مبكراً للقوى المدنية التي تحاول العمل معاً لإيجاد موقع قدم في مواجهة حزب الحرية والعدالة (الذراع السياسية للإخوان المسلمين) والمدعم بخبرة الجماعة في الحشد والتنظيم عبر ثمانين عاماً خلت. وكانت الكتلة المصرية التي تكونت من 19 حزباً مدنياً خالصاً بزعامة حزب المصريين الأحرار ترد في أحد تجلياتها علي التحالف الديموقراطي من أجل مصر (14 حزباً) والذي قاده حزب الحرية والعدالة وطعمه بأحزاب مدنية، بينما كانت سبع أحزاب صغيرة مهتمة بالفقراء وغالبيتها من التيار الاشتراكي تسعي من بعيد تحت اسم «تحالف الثورة مستمرة» ظناً أن بمقدورها إقناع الناخب المصري ببديل لكل هذه الخلطات المريبة والتي وجدت في انتخابات البرلمان ميداناً تجريبياً لأوزانها في الشارع ولقدرتها على التأثير. وإن كان التحالف كرس قدرات الحرية والعدالة ووصل بها إلى الغالبية في البرلمان (235 مقعداً) فإنه تبقى له فضيلة أساسية وهو أنه تسبب في الإطاحة بشعار «الإسلام هو الحل» للأبد وتغييبه لاحقاً من كل المعارك الانتخابية بعد أن اتخذ التحالف شعار «نحمل الخير لمصر». وجرت مياه ساخنة كثيرة عصفت بمجلس الشعب غير الدستوري وجاءت بمرشح الحرية والعدالة الدكتور محمد مرسي رئيساً وأبعدت المجلس العسكري الحاكم عن المشهد السياسي وصولاً الى معركة الدستور والتي شهدت بدورها ولادة الموجة الثانية من تحالفات القوى المدنية. وكانت افتتاحية هذه الموجة مع حزب المؤتمر الذي أسسه المرشح الرئاسي السابق عمرو موسى ودمج 25 حزباً وحركة سياسية. على هذه الخلفية من المحاولات الحثيثة لبناء تجمع وطني واسع وفي أجواء مداهمة اللجنة التأسيسية للدستور للجميع بطرح مشروع دستور كان مُنح شهرين إضافيين من قبل الإعلان الدستوري للرئيس مرسي الذي حصن فيه نفسه من الملاحقة القضائية وعزل النائب العام، في قفزة إلى الأمام، أعادت ترتيب الأولويات السياسية للقوى المدنية والثورية معاً، تأسست جبهة إنقاذ مصر. ولوحظ في تشكيل الجبهة أضداد عدة في الرموز التي تصدرتها وفي المقاصد التي قررت تبنيها. وقبل نهاية تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي أعلنت قوى وطنية وديموقراطية تشكيل الجبهة ككيان جامع لكل القوى الرافضة للإعلان الدستوري، والأخير انتهي أمره بإنفاذ الدستور، وإنشاء قيادة وطنية جماعية، تتفرع عنها لجنة تنسيقية لإدارة العمل اليومي من رموز مصر، على أن تكون مهمة تلك القيادة، إدارة المرحلة سياسياً وشعبياً وجماهيرياً. ويأتي ثقل الجبهة من وزن قادتها الذين يعدون رموز القوى المدنية في مصر، عمرو موسى ومحمد البرادعي وحمدين صباحي ومحمد أبو الغار والسيد بدوي وأحمد سعيد وجورج إسحاق وغيرهم. ولكن هذه الواجهة المدنية القوية تواجه تحديات عدة، ربما يمكن إجمالها في تحديات رئيسية. أولها وأبرزها الحفاظ على الكيان نفسه من طريق تطوير خطابها وصد محاولات داخل الجبهة وخارجها لشغلها بمعارك الدفاع عن النفس. فلقد أقرت الجبهة مسألة خوض الانتخابات التشريعية في نيسان (إبريل) المقبل بقائمة موحدة، ولكنها الآن أمام أزمة إعداد القوائم الانتخابية. واعترض ممثلون لأحزابهم في الجبهة على ضم القوائم أسماء عملت في ظل النظام السابق ما يجعلهم يبدون كفلول في نظر الناخب، ما يترتب عليه الإساءة لصورة الجبهة من جهة وتنأى القوى الثورية عن دعمها من جهة أخرى. وزاد بعض المعترضين بالتهديد بالانسحاب من الجبهة، ومما يفاقم الوضع أن بعض الاعتراضات طاولت قادة مؤسسين في الجبهة مثل عمرو موسى وكذلك رؤساء أحزاب الوفد (السيد البدوي) والتجمع (رفعت السعيد) بدعوى أن الحزبين وحزب التجمع كان من موالاة النظام السابق. والغريب هو إقحام عمرو موسى في ملف الفلول بينما التعريف الرسمي الوحيد للمصطلح - وإن جاء عرضاً – في الدستور أنه من شغل منصباً أو كان في قيادة الحزب الوطني أو في هيئته البرلمانية في السنوات العشر الأخيرة. الأمر الذي لا ينطبق على موسى بأية حال. التحدي الثاني في قدرة الجبهة على مقاومة محاولة تقزيمها وتحويلها عن بوصلتها الرئيسية، وخصوصاً أن أحزاباً وتجمعات أخرى لم تعتبرها بعد وتصر على ذلك جامعة للقوى المدنية. كما تناصب قوى ثورية شبه مدنية الجبهة العداء مثل حزب مصر القوية بقيادة الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح الذي رفض صراحة الانضمام لجبهة الانقاذ وعرض أبو الفتوح على البرادعي تشكيل تحالف سياسي جديد ويعتقد أبو الفتوح أن الغرض من تأسيس الجبهة انتهى بتمرير الدستور ولا يوجد ما يدعو لاستمرارها. والتحدي الثالث للجبهة هو قدرتها على إمساك الخيط الذي يربطها بالرأي العام وخصوصاً الغالبية الصامتة المنسية والقوى الثورية المكتئبة وذلك من طريق التمسك بإعلانها الأساسي. الكثير من محاولات الاستقطاب تختبر قدرة المواجهة على البقاء ولا يأتي بعضها من القوى المدنية وشبه المدنية وإنما أيضاً من قوى تيار الإسلام السياسي والتي بدأ بعض قادته يتحدثون عن عدم ممانعة في الحوار من دون شروط مع جبهة الانقاذ الوطني لما تمثله من ثقل في مكوناتها، بحيث إذا لم تنجح عملية الإزاحة، فقد يصلح للحوار لتذويبها في التروس السياسية اليومية. * صحافي من أسرة «الحياة»