لنفترض مراقباً أو فريقاً من مراقبين سوريين، مطلعين ونزهاء، يتباحثون في كيفية الخروج ببلدهم من محنته الراهنة. لنفترض أن لدى المراقب، فرداً أو فريقاً، المعلومات الضرورية عن سير الأوضاع السورية منذ منتصف آذار (مارس) 2011، وأنه على اطلاع معقول على التطورات التي أدرجت تحت اسم «الربيع العربي»، وأنه مطلع بمقدار ما على تاريخ سورية المعاصر وتكوين المجتمع السوري. ولنفترض أخيراً أن هذا الفرد أو الفريق ليس منحازاً في الصراع السوري، وأنه وضع بين قوسين ما يقوله أي من فرقاء الصراع، ويريد أن يتوقف نزيف الدم والخراب في البلد، وأن يعاد بناء الحياة العامة في سورية على أسس عادلة بحيث لا يتصارع السوريون مجدداً. ما هي النقطة الصلبة التي يمكن أن ينطلق منها مراقبنا المفترض لإخراج البلد من أزمته الخطيرة؟ من غير المحتمل أن ينطلق من رواية «النظام» أو «الثورة» عما يجري، وإن تجنب المجادلة في الروايتين. هناك صراع في سورية، والمراقب يريد وقفه والتخلص من أسبابه كي لا يتجدد، ويريد العدالة لأنه محب للخير ولبلده. ظاهر له أن هناك سوريين لا يريدون أن يُحكَموا بالطريقة التي حُكموا بها طول نصف القرن المنقضي. هذا مؤكد، ولن يتردد المراقب المتجرد في تقريره. ظاهر بالمقدار ذاته أن هناك سوريين يقفون إلى جانب النظام، سواء من باب الولاء له أو خوفاً من التغيير وعواقبه. المراقب ديموقراطي العواطف، وتفضيلات السوريين الأحياء لها الأولوية في تحديد أفضلياته هو أيضاً. هذا يملي عليه المخرج الأنسب: تقاسم السلطة في البلد. المبدأ واضح، وإن جرى التعبير عنه بصورة خشنة، أما صيغة التقاسم الأنسب فلا بد من التداول بشأنها. المعيار فيها هو الفاعلية والاستقرار، فضلاً عن العدالة. الأكيد أنه لا يجوز أن يُحكم البلد من أحد «إلى الأبد»، ليس لأن ذلك يتعارض مع الهوية السياسية لنظام الحكم في البلد، «الجمهورية»، ولكن لأنه غير عادل. متوسط بقاء رأس السلطة التنفيذية اليوم في بلدان العالم يتدنى عن عشر سنوات. والسيد بشار يشغل موقعه منذ نحو 13 عاماً، علماً أنه لم يشغل الموقع لكفاءة خاصة، وإنما لكونه ابن أبيه. وهو ما يعني أن سورية تحكم بالأسرة نفسها وبالأسلوب نفسه وللمصلحة نفسها منذ 43 عاماً. لا يلزم أن يكون المرء مُغرِضاً حتى يقول ذلك. أكيد بالمقدار نفسه وأكثر أنه ليس من العدالة في شيء أن يعامل السوريون، أو أي شعب، بالطريقة اللاإنسانية التي عاملت المخابرات السورية السوريين فيها طوال عقود. هاتان نقطتا إجماع عند أي مراقب منصف، أليف لحساسية العصر، ومطلع على مطالب السوريين أنفسهم. ولا يستطيع حتى الموالون للنظام قول شيء غير تحكمي بشأنهما. لكن في العلاقات بين السوريين مخاوف وتوجسات تتصل بهوياتهم الموروثة، أو بتكوين مجتمعهم الذي يشير إليه بعضهم ب «الفسيفسائي»، وظاهرٌ للمراقب المتجرد أن النظام القائم، المرفوض من سوريين، يسكَّن مخاوف سوريين آخرين، وأن بعضهم يضحي في سبيل بقائه. لن يدخل المراقب في أصول هذا الوضع والمسؤوليات المحتملة عنه. يترك ذلك للمؤرخين والاجتماعيين. هو شخص عملي، ويريد تطمين الخائفين من جهة الموالين للنظام، وفي الوقت نفسه تحقيق التغيير السياسي العادل الذي يطالب به المعترضون، وقد كانوا خائفين بدورهم طوال عقود. كيف يمكن تطمين خائفين من دون إبقاء غيرهم أسرى الخوف؟ تقاسم السلطة العمومية هو المخرج. السلطة الفعلية- يعرف المراقب ما يعرفه جميع السوريين- هي للرئيس والمخابرات. يفكر المراقب بانتخابات حرة تعددية، رئاسية وبرلمانية، في وقت قريب. لكن عدا وقف النار والإفراج عن المعتقلين وعودة النازحين واللاجئين، هذا يستلزم منطقياً تحييد أجهزة الإعلام والمخابرات. لتحقيق هذا التحييد يلزم منطقياً تفاوض جدي وندي بين السوريين. سيلاحظ المراقب أنه بعد نحو عامين من «الأزمة» لم يقترح النظام في أي وقت انتخابات حرة نزيهة في البلد، وأن بشار يريد الترشح في انتخابات تجرى بإشراف نظامه عام 2014، وأنه لم يعرض استعداداً في أي وقت للتفاوض الجدي مع أي خصوم سياسيين، ولو كانوا من الأكثر اعتدالاً حياله... وأن النظام أو أحداً من طرفه لم يعرض بعد 22 شهراً ونيفاً من الأزمة استعداداً لإعادة النظر في أسس النظام السياسي، أي مرة أخرى رئاسة السلطة التنفيذية وأجهزة المخابرات، وما يتيحه موقعهما الثقيل في البلد من نفاذ امتيازي إلى الموارد الوطنية. مراقبنا الوطني لن يفكر على الأرجح بطلب موعد مع بشار الأسد لعرض أفكاره بخصوص تقاسم السلطة والتفاوض والانتخابات الحرة. افترضنا فيه أصلاً الاطلاع وحداً أدنى من الذكاء. الواقع أن حسابات هذا المراقب هي حسابات كثيرين منا، نحن السوريين. حسبناها مراراً وتكراراً، و»ما كانت تزبط». في الأصل، لدى كلٍّ منا خبرة شخصية واسعة تؤكد له أنها لن «تزبط». وتجارب اليوم تؤكد الشيء ذاته. الخيارات التي عُرضت علينا بعد كل هذا الكفاح وهذه الآلام الرهيبة هي تغييرات شكلية لا تمس النظام في مواطن السلطة الفعلية فيه، «الدولة الباطنة». يريد جميعنا وقف سيل الدماء وزحف الخراب، ولكن لا أحد يرضى غنيمة من هذه الوثبة التاريخية بالإياب إلى حكم «سيد الوطن»، ومخابراته وإعلامه وحزبه وصوره، وأبيه... الصفة المأسوية للصراع السوري مكتوبة هنا: الموالون مصرون على حماية النظام العائلي ولو بحرق البلد، والثائرون ليسوا مستعدين للعيش في البراز، أياً يكن الثمن. وحده باب الموت يبقى مفتوحاً. بعد كل حساب، المراقب المفترض لن يقترح شيئاً. إن كان مقيماً في البلد ربما انزوى على حياته الخاصة، وصمت. المشكلة أنه حين لا يكون هناك كلام إنساني واضح يقال، هناك كلام إلهي جاهز لأن يُستظهر. وحين لا يفيد الشرح، راية «الفعلجيين» هي ما يعلو. أو قد يهاجر مراقبنا من البلد إلى منفى آمن، بعيداً من الخراب والنظام معاً. له أسرة وأطفال... كان هذا خيار كثيرين قبل جيل وأكثر، ولقد أورثنا خراباً مركّباً ووسخاً كثيراً.