حين اعتُقل سلامة كيلة، أسرعنا إلى إصدار بيانات التنديد مفترضين أن الرجل، الذي نعرفه جميعنا جيداً، سيخرج في الغد أو بعده. كنا نعلم أنه سبق له أن أمضى سنوات في السجن في سورية نفسها. لكننا افترضنا - مجدداً! - أن ذلك جرى في إطار «ظروف أخرى»، حين كان سلامة حزبياً ناشطاً وكان تنظيمه يتعرض للقمع ومحاولة الاجتثاث. كنا نعلم أن كتّاباً آخرين سبق لهم أن أمضوا سنوات في السجن في سورية لأنهم قالوا كذا أو كيت. لكننا افترضنا (!) أن لدى السلطة في سورية حالياً ما يشغلها بإلحاح أشد عن كلام قيل في مقهى أو صحيفة. كنا نعلم أنهم يعتقلون أولاداً، ولا أقصد الأطفال الذين يعذبون ويقتلون لتربية آبائهم و «الشعب»، بل هؤلاء الشبان والشابات اليافعين الذين يتجرأون على الخروج في تظاهرة، أو كتابة موقف على مدوناتهم، أو رفع لافتة في شارع عام أو الجدال في مقهى. لكننا افترضنا أن لمعاملة الكتّاب المعروفين مقاييس أخرى، ليس رأفة بهم أو احتراماً للثقافة، بل مراعاة لمصلحة السلطة ذاتها. كنا نعلم أنهم قساة، لكننا افترضنا أن لوحشيتهم وظيفة، ورحنا في كل واقعة متوحشة تُرتكب «نحلل» المعطيات، فنسعى إلى تحديد تلك الوظائف: في درعا، في حمص، في المناطق الحدودية... كنا نفترض لأفعالهم عقلانية، ونسعى إلى التقاطها لنفهم هذا «الآخر» الذي نواجه، فيمكن استباق ردوده، ودفع الخيارات المقابلة نحو امتلاك الفاعلية. ذلك هو تعريف السياسة. كنا نعلم أنهم لا يقرّون لسواهم بالحق في السياسة، لكن الخوض فيها رغماً عن إرادتهم هو قانون الصراع... أي قانون الحياة، وليس أقل. كنا نعلم ونفترض و «نتفلسف»، إلى أن أُطلِق سلامة كيلة من المعتقل، بعد قرابة شهر وليس بعد يوم واحد، وأُبعِد إلى الأردن بينما هو متوطن في سورية منذ عقود، ومتزوج بسوريّة، وبينما هو فلسطيني وليس أردنياً، وبينما كنا نفترض أن السلطة في سورية «عروبية»، فلا فرق بين... إلى أن صوَّر سلامة آثار التعذيب المريع على جسده ونشرها على «يوتيوب». تعذيب؟! سلامة قارب الستين، ومريض بالسرطان (الذي يقاومه ويقهره منذ سنوات). دعك من الاستهجان الأخلاقي والحقوقي والإنساني المحق: علام التعذيب؟ هل سيغير سلامة رأيه؟ هل سيخاف أقرانه ويرتهبون؟ أين العقلانية الوظيفية تلك التي رصدناها في كل حين، وكيف تستمر العملية السياسية من دونها؟ كنا نعلم أن السلطة في سورية تضبط المجتمع عبر نظام معقد من القمع. ليس ذاك المباشر فحسب، والذي يتعمد الانفلات عند أقل نأمة، ويتعمد الوصول إلى مستويات مدهشة من التوحش، بل بالاشتغال المنهجي على إلغاء أي أفق لبديل وسحق أي أمل: التيئيس والإخضاع. وكنا نعلم أن مأسسة الوشاية جزء أساسي من فاعلية هذا النظام، وأن توزيع الفتات - من وظائف محتملة، أو إجازة أعمال حرة مهما كانت متواضعة، أو القبول في الجامعة، أو حتى إنجاز المعاملات العادية واليومية - يعمل بصفته الجزء الآخر من تلك الشبكة القمعية الضابطة. لكننا افترضنا أن انهيار هذه المنظومة برمتها بفعل الانتفاضة المستمرة منذ عام ونيف، سيدفع أهل السلطة إلى تعديل مسلكهم ليلائم الواقع!... وأن الخبرة المتوافرة لديهم أفضل مدرسة. كنا نفترض بعض الشطارة، فيقمع النظام «المجموعات الإرهابية» ولو أدى ذلك إلى دمار أحياء بأكملها على رؤوس ساكنيها، لكنه يتغاضى عن كلمة قالها أو كتبها شيوعي ومسيحي وفلسطيني... معارض! وإن أراد الزجر، وبافتراض حاجته به، فيمارسه بنعومة، مميزاً بين الحالات، ساعياً إلى الحفاظ على بعض المظاهر، على الأقل حيال الدوائر العالمية التي ترصد حركاته، إن لم يكن من اجل استمالة أو تحييد أو إرباك قوى داخلية وإجبارها على تلوين مواقفها بالتعقيد الذي يفرضه الواقع وذلك المسلك على حد سواء. كنا نعلم مقدار العسف، لكننا افترضنا وجود - استمرار وجود - تعقيد خارجه. السلطة في سورية تعتبر المجتمع كتلة صماء، وتقسّمه إلى فسطاطين: معنا أو ضدنا. ولأن ال «معنا» تلك تتقلص وتصفو إلى بضعة مكونات، فجميع الأعداء سَواء. وهذا مسلك سلطة برَّانية. وهي قد تجر في حركتها تلك الأجزاء من المجتمع التي يفترض أنها استندت إليها في صعودها وسيطرتها، لكنها تفعل في شكل فج وعارٍ تماماً: لم يصل حافظ الأسد إلى السلطة في سورية باسم الطائفة العلوية، وإن كان أحد أبنائها، وسعى إلى الاستفادة من عصبية توفرها له، بل هو وصل وحَكَمَ باسم مشروع كانت خصائصه أنه قادر على توحيد سورية - بينما هناك في البلاد عوامل قوية تجعل هذه الوحدة غير بديهية - وترسيخها في محيطها العربي، وتحقيق تنمية تستند إلى حد من العدالة الاجتماعية. أليس ذلك هو «البعث»؟ هي على الأقل المشروعية السياسية له، وقاعدته الاجتماعية الفعلية، وإن استند أمنه إلى الجيش والاستخبارات. لألف سبب وسبب، تغيَّر ذلك على مرّ الأيام. وإن كانت بذور التغيير ذاك حاضرة منذ البدء، لكنها مثل الأعشاب الضارة، نمت عندما لم تُقتلع. وإذا أمكن عند الأزمة الأولى (أعوام 1979 - 1982)، عقد تسوية مع شرائح اجتماعية نافذة في المدن الكبرى، فإن المسار المعتمد مذاك ألغى هذه الإمكانية: جرى إنبات بورجوازية جديدة، مرتهنة تماماً للسلطة وأفرادها، طفيلية ومضاربة، نهَّابة فحسب. وهذه كالفطر، لا جذور لها، لكنها تتكاثر وتبتلع ما يتاح لها. لم يعد يوجد من تُقام معه تسوية! حتى العلويون ككتلة بشرية واجتماعية، يدركون أنهم وُرِّطوا بأمر لا يُدافَع عنه. وحتى الأقليات الأخرى التي تجري إخافتها بالمسلمين «المتطرفين» الذين سيأكلونها حية، تدرك مبلغ مأزقها، وبعضها يختار حلولاً مرعبة، على رأسها الهجرة. السلطة البرَّانية تكتسب بسرعة ملامح انكشارية. يمكن الخبراء الروس والإيرانيين أن يخططوا للمعارك العسكرية وللغارات القمعية، لكن ذلك الأساس ليس من اختصاصهم. وأما سلامة كيلة، فله الأفق الذي استمر هو متمسكاً به، على رغم الهول، وبالعناد الذي يميزه. سلام إليه وإلى كل أقرانه، وما أكثرهم!