يتدثّر راضي بشال طويل ويلفّه على أذنيه. قبل خروجه من الفندق، حصَّن نفسه بملابس سميكة تصدّ برد بيروت القارس هذه الأيام. في أحد مقاهي الوسط التجاري للمدينة يجلس وحيداً، يستمع إلى قرقرة النرجيلة، ويراقب دخاناً ينفثه. الهدوء مزعج في المكان الذي كان يحتضن مئات الوجوه، وبات اليوم أشبه بملاذ للأشباح. مقاعد فارغة وطاولات ما زالت نظيفة من بقايا الطعام. نادل أمام مطعم ينتظر زبوناً، كما ينتظر أهل الصحراء المطر. يقول السائح العراقي مازحاً: «قبل وصولي إلى لبنان، حجزت المنطقة بكاملها، أريد المشي بين الآثار وتفقد أحجار المدينة، لا أريد أن يزعجني أحد وأنا أتناول عشائي، أصبو إلى الهدوء والسكينة، مهما كلفني الأمر». يضحك راضي من هلوساته، ويأسف إلى الحال التي وصلت إليها أسواق بيروت، متذكراً زحمة السياح فيها وصعوبة إيجاد حجز في مطعم أو مقهى حتى بعد منتصف الليل. المنطقة التي تضرَّرت خلال الحرب الأهلية، وكانت متاريس لمقاتلين، أعيد افتتاحها أواخر تسعينات القرن الماضي، فغدت وجهة السياح ومكان السهر وحياة الليل وفنونه. لكن الأوضاع السياسية المتوترة في لبنان والأحداث الأمنية والاغتيالات والاعتصامات، ساهمت في ابتعاد الناس عن هذه المنطقة وتوجههم صوب مناطق الحمرا والجميزة ومونو. ومنذ اعتصام قوى المعارضة الطويل في الوسط التجاري عام 2007، وما تلاه من اعتصامات وتظاهرات، أقفلت غالبية المحال، وخسر آلاف العمال وظائفهم، خصوصاً أن الإيجار قد يتجاوز 400 ألف دولار سنوياً. مطاعم حاولت التغلب على الصعاب، عبر تقليص النفقات والاستمرار، لكن الأوضاع الضاغطة والتدهور في شتى المجالات، أوصلت أصحابها أخيراً إلى الإقفال بحثاً عن منطقة منتعشة يقصدها السياح والمقيمون. ومع مطلع 2013، أقفلت شركة «بوبس غروب» مطعمين لها في الوسط هما «سكوزي» و «إنتركوت»، لانعدام السياح، وقلة الحركة في المنطقة عموماً. ويقول المدير الترويجي للشركة هادي فاضل إن استمرار العمل مرهون بوضع البلاد، وبما أن الأوضاع السياسية في لبنان متأزمة، انعكس ذلك سلباً على المصالح عموماً. ويضيف: «دفعتنا تراكمات عدّة خلال السنوات الماضية إلى الإغلاق والبحث عن فرص جديدة، والإيجارات التي ندفعها لشركة سوليدير لم تكن سبباً رئيساً لإقفالنا». وعما إذا كانت الشركة حاولت خفض أسعارها مثلاً لاستقطاب الناس، يوضح فاضل: «نهتم بنوعية ما نقدّم ومن الصعب خفض الأسعار لأنها مدروسة، حتى وإن خفّضت فذلك لن يحل الأزمة، فمنذ بدأنا العمل في المنطقة والفوضى تعصف بها من كل الجوانب». وأقفل الشهر الماضي محل كبير للأجهزة الخليوية (class)، وقبله مقهى «كوستا» الذي كان يعتبر من أكثر المقاهي شعبية في المنطقة، ويجتمع فيه موظفون خلال استراحاتهم. وفي جولة سريعة على الفنادق الموجودة في الوسط نلاحظ قلة الحجوزات وانعدامها في بعض الأماكن. إذاً ،الوسط التجاري يحتضر، خصوصاً في الليل. ومن غير الممكن أن تنهض السياحة في منطقة انكفأ عنها الناس ووجدوا بدائل لها. يقول نادل في أحد مطاعم الشارع المؤدي إلى مقر مجلس النواب، إن الزبائن باتوا يخافون تناول الطعام، خصوصاً حين يلاحظون خلوّ المطعم من السواح. ويضيف: «تقتصر الطلبات على المشروبات الغازية والنراجيل، وبعض الأطعمة الخفيفة، فمنظر طاولة ممتلئة بالزبائن وأنواع الطعام بات نادراً». ويوضح أن أزمة الوسط التجاري انعكست سلباً على الإدارة التي اضطرت لتقليص النفقات عبر صرف عدد كبير من الموظفين، والاحتفاظ ببعض الأشخاص المهددين حالياً بخسارة العمل لأن الإدارة تفكر جدياً في إقفال المطعم. ولتدارك الأزمة عموماً، وتنشيط قطاع السياحة في مختلف المناطق، أطلقت وزارة السياحة «الخطة الخمسينية» (تستمر 50 يوماً) وتشمل حسومات بنسبة 50 في المئة لغاية 28 من الشهر المقبل. كما أعدت عرضاً للسياح العرب ابتداءً من 350 دولاراً يشمل بطاقة السفر وثلاثة أيام في الفندق (ثلاث نجوم)، على أن تتغير الأسعار تبعاً لتعديلات الزبون. ويبقى السؤال: هل سيقصد السياح لبنان وإن بأرخص الأسعار في ظل تجاذب سياسي وتوتر أمني دائمين؟