ربما لا توجد أدلة دامغة يمكن الركون إليها للوقوف على حقيقة التهديد المباشر الذي يمثله تنظيم «داعش» بالنسبة إلى مصر. فمن جهة، تتلاقى تقارير استخباراتية مصرية وأخرى إسرائيلية عند رصد وجود تنسيق بين جماعة «أنصار بيت المقدس» في مصر وتنظيم «داعش»، تبرز بدورها سعي التنظيم الحثيث من أجل التموضع بالقرب من الحدود المصرية- الإسرائيلية. إذ رصدت تلك الدوائر مؤشرات خلال الآونة الأخيرة على تبلور حلف جديد بين تنظيم «أنصار بيت المقدس»، الذي ينشط في سيناء ومصر عموماً، و«داعش»، كان أبرزها ما كشفت عنه نتائج تحقيقات مع قيادي في «أنصار بيت المقدس» كان ضالعاً في قتل 25 جندياً مصرياً، في آب (أغسطس) من العام الماضي، فضلاً عن تكرار ظاهرة قطع رؤوس جنود ومواطنين مصريين في سيناء على نحو يشبه أسلوب «داعش» في العراق وسورية. ومع تتابع ظهور الأدلة على وجود علاقات وثيقة بين التنظيمين، لم يستبعد خبراء إسرائيليون ومصريون إقدام «أنصار بيت المقدس»، الذي أعلن في الماضي مبايعته للظواهري وولاءه لتنظيم «القاعدة»، على التحلل من تلك البيعة والتنصل من هذا الولاء، توطئة لمبايعة «داعش» وزعيمه أبو بكر البغدادي، أسوة بتحولات سابقة في الولاءات والبيعة من جانب تنظيمات جهادية وجماعات متشددة شتى لم تتورع عن إعلان مبايعتها ل «داعش» بعد سيطرته على أجزاء من سورية والعراق وإعلانه دولة الخلافة الإسلامية في الموصل. فإضافة إلى ما فعله أبو بكر البغدادي حينما انشق عن تنظيم «القاعدة» في بلاد الشام عام 2013 كي يؤسس لإعلان الخلافة برعاية «داعش»، أعلنت جماعة «جند الخلافة» الجزائرية المتشددة قبل أيام انشقاقها عن تنظيم «القاعدة» في بلاد المغرب الإسلامي، ومبايعة تنظيم «الدولة الإسلامية/ داعش» وأبو بكر البغدادي. ومن جهة أخرى، دأب بعض عناصر «داعش» في رسائل نشروها عبر حساباتهم على «فايسبوك» و «تويتر»، على دعوة أعضاء جماعة الإخوان المسلمين وغيرها من القوى الإسلامية ب «تحالف دعم الشرعية» إلى الانضمام إلى صفوف التنظيم والهجرة إلى دولة الخلافة الإسلامية التى أنشأها، والتخلي عن قياداتهم وجماعتهم. وبالتوازي، تقاطرت التغريدات والتصريحات من جانب بعض كوادر «داعش» وقياداته، لم تخل من تهديدات بمفاجآت غير سارة داخل مصر. حتى أن هناك تغريدات لشاب «داعشى» مصري أشار في أكثر من موضع إلى أنه يتوعد بفتح مصر وإعادة نشر الإسلام على الطريقة «الداعشية». يكتسب انضمام مصر الى الائتلاف الدولي ضد «داعش» أهمية استراتيجية حيوية. فإلى جانب كونها قوة إقليمية ذات غالبية مسلمة سُنية، فإن ثقلها السياسي الإقليمي يمكن أن يوفر مظلة شرعية للتعاون العربي مع الغرب في هذا الائتلاف، خصوصاً بعدما أكدت مصادر في الجامعة العربية أن محادثات كيري مع أمينها العام في القاهرة لم تتمخض عن موافقة الجامعة على توفير غطاء سياسي عربي لهذا التحالف أو لعملياته العسكرية داخل سورية والعراق. هذا في وقت من شأن جيش مصر القوي والمنظم والمتماسك أن يمنح زخماً عسكرياً مؤثراً للتحركات العسكرية الدولية والإقليمية ضد «داعش». وتوخياً للاستفادة من تلك المزايا النسبية للدور المصري، عمدت إدارة أوباما إلى استرضاء القيادة الحالية في مصر بشتى السبل، بغية استجداء انضمامها الى التحالف الدولي. فعلى الصعيد العسكري، أعلن وزير الخارجية الأميركي جون كيري إبان زيارته الأخيرة للقاهرة أن بلاده قررت تسليمها عشر طائرات مروحية عسكرية من طراز «آباتشي»، بغرض دعم جهودها في مكافحة الإرهاب في سيناء. يأتي هذا بعدما كانت الولاياتالمتحدة قد جمدت، فى تشرين الأول (أكتوبر) من العام الماضي، المساعدات العسكرية لمصر والبالغة نحو 1.5 بليون دولار، معلقة إياها على مضي القاهرة قدماً في الإصلاحات الديموقراطية بعد إطاحة الرئيس محمد مرسي، ثم ما لبثت واشنطن أن أعلنت فى نيسان (أبريل) الماضي أنها تعتزم استئناف بعض بنود المساعدات العسكرية السنوية لمصر، مساندة لجهودها في مكافحة الإرهاب. وعلى الصعيد الاقتصادي، شدد كيري على عزم بلاده دعم المشروعات التنموية الطموحة والإصلاحات الاقتصادية المزمعة في مصر. وسياسياً، ثمَّن الوزير الأميركي الدور المصري في استئناف المفاوضات بين الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني، كما أشاد بالخطوات التى تتبناها الإدارة الحالية في مصر على درب التحول الديموقراطى، بما فيها تأكيد السيسي أن الانتخابات البرلمانية ستجرى قبل نهاية العام الجارى. وفي مسعى منه لضخ موجة من الدفء على العلاقات القلقة والمتوترة بين البلدين الحليفين، أكد كيري أن مصر تعتبر بمثابة «مفتاح منطقة الشرق الأوسط»، وأن الجانبين تربطهما علاقات صداقة قوية وحقيقية تصب في مصالحهما المشتركة ومن ثم يتعين العمل على تعزيزها واستمرارها. يأتي الحرص الأميركي على إشراك مصر في التحالف الإقليمي الدولي ضد «داعش» في إطار بحث واشنطن عن غطاء عربي سنّي لحربها على «داعش» لدحض ادعاءات هذا التنظيم أنه يتحدث باسم السنّة المضطهدين في سورية والعراق الآن، ولئلا يفسر التحالف الدولي ضد الإسلام الراديكالي السنّي على أنه انحياز أميركي إلى جانب الشيعة ضد السنّة في المنطقة. وبينما أكد الرئيس السيسي إبان استقباله كيري حرص مصر على تحقيق أمن المنطقة واستعدادها الدائم لبذل كل الجهد في هذا الصدد، دعا وزير خارجيته سامح شكري إلى «تحرك دولي» لمواجهة كل الجماعات المتطرفة في المنطقة والتي ترتبط ب «داعش»، ما يستوجب تأليف تحالف دولي شامل لمواجهة الإرهاب بحيث لا يقتصر على دحر تنظيم بعينه والقضاء على بؤر إرهابية بذاتها، وإنما يمتد ليشمل كل البؤر الإرهابية سواء في منطقة الشرق الاوسط أو في أفريقيا. وحذّر السيسي من تبعات انخراط المقاتلين الأجانب في بعض دول الصراع في منطقة الشرق الأوسط، ولا سيما سورية والعراق، وتأجيجهم الصراعات من جهة، فضلاً عما يمثلونه من خطر حال عودتهم إلى دولهم الأصلية من جهة أخرى. ونفت مصادر مصرية مطلعة ما أوردته جريدة «صنداى تايمز» البريطانية، من وجود قوات مصرية وباكستانية على الحدود السعودية - العراقية للمشاركة في مواجهة «داعش»، وأكدت القاهرة رفضها إرسال قوات خارج حدودها للمشاركة، مشددة على أنها تستخدم قواتها في محاربة ما تواجهه من إرهاب داخلي، وتأمين الحدود على الاتجاهات الاستراتيجية كافة. وأرجعت مصادر مطلعة رفض القاهرة مشاركة قوات عسكرية مصرية في الحرب على «داعش» إلى أن إرسال قوات كهذه خارج الحدود يحتاج إلى إجراءات قانونية ودستورية معقدة، إذ يمنع الدستور المصري الحالي رئيس الجمهورية من اتخاذ قرار بإرسال قوات خارج البلاد من دون الحصول على موافقة البرلمان، الذي لم يتم انتخابه بعد. حيث تنص المادة 152 على أن «رئيس الجمهورية هو القائد الأعلى للقوات المسلحة لا يُعلن الحرب ولا يرسل قوات في مهمة قتالية خارج حدود دولته إلا بعد أخذ رأي مجلس الدفاع الوطني والحصول على موافقة ثلثي أعضاء مجلس النواب». ودولياً، لا يوجد أي إلزام قانوني أو دستوري يجبر مصر على المشاركة في التحالف الدولي لمحاربة «داعش». فوفقاً لأحكام القانون الدولي، يستند التحالف ضد «داعش» إلى المادة 51 من ميثاق الأممالمتحدة التي تنص على حق الدول فرادى أو جماعات، في الدفاع الشرعي عن نفسها، وهو ما يعطي الحق للعراق بمحاربة «داعش» ودعوة دول العالم الى مساندته في تلك الحرب من دون إجبار لأي منها. وفيما أوردت صحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية أن دعوة واشنطن لمحاربة التنظيم قُوبلت بحماسة فاترة من جانب حلفاء شرق أوسطيين رئيسيين لواشنطن مثل مصر والأردن وتركيا الذين أبدوا عدم التقيد بالتزامات محددة لتوسيع الحملة العسكرية، وبينما وقعت مصر على بيان التحالف الدولي لمواجهة «داعش»، تواترت تصريحات المسؤولين الرسميين المصريين تؤكد رفض بلادهم المشاركة في أي عمل عسكري في العراق وسورية. وبناء عليه، يمكن القول إن الرؤية المصرية للمشاركة في التحالف الإقليمى والدولى المناهض ل «داعش» ترتكز على أمور أساسية: أولها، أن مصر، التي تحارب الإرهاب منذ فترة داخل أراضيها وعلى طول حدودها الشرقية والغربية والجنوبية، لن تتعامل مع الإرهاب بالقطعة وإنما ستتعامل معه بطريقة شاملة عبر مواجهته عالمياً في كل زمان ومكان عبر سد الثغرات في الدوائر الأربع العالمية: دائرة حركة البشر، دائرة حركة المال، دائرة الإعلام، ودائرة حركة الأفكار. أما على الصعيد الإقليمي، فإن مواجهة الإرهاب تعني تكسير أضلاع المثلث كلها: الدول الراعية للإرهاب، والحركات والمنظمات الإرهابية، وتفكيك منظومة الإرهاب الفكرية وأدواتها التي تشرعنه وتبرره. وثانيها، لما كانت مصر تشاطر كل الأطراف السنية الإقليمية الخوف من نيات واشنطن الحقيقية نتيجة الحرب على «داعش»، التى جاءت متأخرة وبغير مدى زمني واضح، فإنها ترى من الأهمية بمكان أن يستظل التحالف وعملياته بمظلة الأممالمتحدة. وهي الرؤية التي تتماشى مع تصور خبراء الأممالمتحدة، الذين يحققون في جرائم الحرب في سورية، والذين طالبوا التحالف الدولي ضد «الدولة الإسلامية» بضرورة احترام قواعد الحرب التي تفرض حماية المدنيين، وتراعي مبادئ التمييز والتناسب، أثناء العمليات الحربية. وثالثها، ضرورة مراعاة حرية القرار السيادي لكل دولة مشاركة في التحالف، بما يستوجب موافقة الدول كافة التي تطوي أراضيها بؤراً إرهابية قبل التدخل العسكري فيها. ورابعها، ضرورة تحديد مدى زمني واضح ومحدد وغير مبالغ فيه للعمليات العسكرية، حتى لا نفاجأ بامتداد تلك العمليات لسنوات طوال ترهق الأطراف المشاركة فيها إلى حد قد يحيد بالحرب عن أهدافها الأساسية ويولّد نتائج عكسية على غرار ما جرى خلال الحرب على أفغانستان، والتي استمرت خمس عشرة سنة ثم في حرب العراق التي امتدت لعشر سنوات. وبينما أكد كيري أن من السابق لأوانه الحديث عن تحديد دقيق لأدوار الأطراف الإقليمية المشاركة، لافتاً إلى حق كل دولة في اختيار الطريقة التي ستشارك من خلالها في التحالف، شدد رئيس الديبلوماسية الأميركية على أن الدول العربية ستقوم بدور حاسم في الحرب على «داعش»، وأن مصر ستقف في الصفوف أو الخطوط الأمامية لمحاربة الإرهاب. وفى حين توقع خبراء أن تنحصر المشاركة المصرية في مهمات لوجيستية وأنشطة استخباراتية، أشار كيري إلى أن استراتيجية مكافحة الإرهاب لن تقتصر على الجانب الأمني والعسكري فحسب، وإنما ستطاول الجبهات الدينية والثقافية. وفي هذا السياق، استبعدت صحيفة «نيويورك تايمز» مشاركة مصر عسكرياً في الحرب على «داعش»، مؤكدة أن الأميركيين سيطلبون من القاهرة، باعتبارها العاصمة الحضارية للإسلام وموطناً للأزهر الشريف، أن تلعب دوراً ثقافياً وفكرياً في توعية الرأي العام الإسلامى بشأن اخطار «داعش»، عبر تفعيل دور الأزهر في تبيان مثالب الجماعات المتطرفة وتفنيد أسانيدها الفكرية والشرعية وإثبات مخالفتها لصحيح الدين الإسلامي السمح، مع العمل في الوقت ذاته على نشر قيم الإسلام الحقيقية بكل ما تنطوي عليه من سماحة ووسطية واعتدال واحترام لإنسانية البشر وكرامتهم أياً كانت هوياتهم أو معتقداتهم. * كاتب مصري