عُقد أخيراً في العاصمة البحرينية (المنامة)، المؤتمر الخامس والعشرون، للاتّحاد العام للأدباء والكتّاب العرب، وصدر عن المؤتمر هذا بيانان: البيان الختامي، وبيان الحرّيّات في الوطن العربي، أكّد خلالهما المجتمعون على مجموعة كبيرة من المقرّرات التي تدور حول عدد من المواضيع الثقافية، ومنها: حريّة الكتابة، مقاومة التّطبيع، التّصدّي للخطاب التّكفيري، ضرورة تبنّي خيار الدّولة المدنيّة، ومناصرة الثّورات العربية. المقرّرات السّابقة كما نرى هي مقرّرات مهمّة تصبّ في مصلحة الثّقافة العربية، غير أنّها أقرب ما تكون إلى الأمنيات، التي لا تُقدِّم ولا تؤخّر! والسّبب في ذلك يعود إلى عدم وجود عمل ثقافي حقيقي على الأرض، يسير بالتّوازي مع الطّروحات النّظرية السّائدة. ثمّة ثقافة عربية مربكَة، تعاني الكثير من الأزمات والمشاكل: أزمة النّشر والتّوزيع، أزمة انتشار الأميّة، أزمة الحرّيّات التي لم تعد تقتصر على القمع الذي تسببه الأنظمة، حيث انضمّت فئات جديدة ذات اتّجاهات ماضويّة، لتضيّق الخناق على المثقّفين. مقابل هذه الأزمات المتفاقمة التي تعصف بالثقافة، لا تكاد اتّحادات الكتّاب العربية وروابطها، التي يتشكّل منها الاتّحاد العام، تقوم بشيء يُذكَر! إنّها اتّحادات عاطلة من العمل إذا جاز لنا التّعبير، وإنّ كل ما تفعله لا يتعدّى البيانات التي تُصدِرها بين حين وآخر! في ما يتعلّق بالقضيّة الفلسطينية نقرأ التّوصية الآتية: «مواجهة أخطار التهويد التي تزداد على القدس وعموم فلسطينالمحتلة، مع حضّ الدول العربية، قياداتٍ وشعوباً، على دعم مقاومة الاحتلال، وتوفير كل ما من شأنه إسناد صمود أهلنا في الأرض المحتلة»، ونقرأ أيضاً: « يتصل بذلك موضوع مقاومة التطبيع، وهو أحوج ما يكون إلى العمل الجدي نحو تعزيز نشر ثقافته، ومواجهته بكل أشكاله، وأن تعمل المؤسسات الوطنية في الدول العربية خصوصاً ذات الاختصاص الأكاديمي والفكري والثقافي على ترسيخ القضية الفلسطينية باعتبارها القضية الأولى ذات الأولوية المطلقة، مع حشد كل الإمكانات المادية والمعنوية لنصرة الشّعب الفلسطيني، ونيل حقوقه في محيط شرس، من الاحتلال والاضطهاد، والمضي أشواطاً بعيدة في الاستيطان». حين نقرأ الكلام السّابق، نحسّ كأنّ كل شيء أصبح معدّاً، لمواجهة الاحتلال والتّهويد، ولخدمة القضيّة الفلسطينية والثقافة الفلسطينية التي ترزح تحت الحصار، ولكنّنا على أرض الواقع لا نكاد نعثر على شيء مما ذُكِر. ألا يعرف الإخوة في الاتّحاد العام، أنّ مقرّي اتّحاد الكتاب الفلسطينيين في كلّ من رام الله وغزة، مغلقان منذ عام 2009، وذلك بسبب عدم دفع أجرة هذين المقرّين؟ ألا يعرف هؤلاء الإخوة أنّ فلسطين التاريخية الآن، لا تصدر فيها مجلّة ثقافية واحدة، تقدّم الإبداع والثقافة؟ ألا يعرفون الحال المعيشية المتردّية للكتّاب الفلسطينيين، وكذلك الواقع الصّعب الذي تمرّ به المؤسسات الثقافية الفلسطينية، وعلى رأسها بيت الشعر الفلسطيني؟ ثمّ ألا يبصرون (دكاكين) منظّمات التّمويل الأجنبي في كلّ مكان، داخل فلسطين وخارجها، حيث تنشط في تقديم هباتها المدروسة، وتنفيذ مشاريعها التّطبيعية المشبوهة؟ مثل هذا التناقض الصارخ بين الأمنيات العظيمة التي يرفعها الاتحاد العام، والفقر الشّديد الذي يعانيه على مستوى صناعة الثقافة، نلمسه أيضاً في المقرّرات الأخرى، الأمر الذي يدعونا إلى التّساؤل: تُرى لماذا يلجأ الاتّحاد العام باستمرار، إلى التّستّر على حال الخواء الفظيع التي يعاني منها، ولا يعمد بدل ذلك إلى فضح حالة الحصار والتهميش التي تضرب بطوقها على عنقه، وعنق الثقافة العربية والمثقّفين العرب؟ لقد بطشت الأنظمة العربية بالثقافة، فمنعت فيما مضى نشر الكتب وتوزيعها، كما قامت هذه الأنظمة بالتّنكيل بالكتّاب المعارضين، وذلك من خلال سجنهم تارةً، ومنعهم من العمل تارةً أخرى، الأمر الذي أدّى إلى هجرة الكثير منهم، من بلدانهم باتّجاه العواصم الأوروبية. أمّا اتّحادات وروابط الكتّاب العربية، التي جرى إنشاؤها في حقبة ستينيات القرن الماضي وسبعيناته، كتقليد لما كانت عليه اتّحادات الكتّاب في البلدان الاشتراكيّة، فقد حاربتها الأنظمة العربية بضراوة، وعزلتها عن جمهورها، وبسبب غياب رأس المال اللازم للعمل الثقافي، فقد انكفأت هذه الاتحادات على نفسها، ولم يبق لديها سوى المقولات الثقافية الفضفاضة، ذات الرّنين العالي، التي تطلقها بين الحين والأخر، في شكل يوحي بقوّتها المتوهَّمة ووزنها المتخيَّل. قبل سنتين اشتعلت نيران الثورة في بلدان عربية عدة. كانت الفئة الأكثر بروزاً في قيادة هذه الثورات، الأجيال الجديدة من الشّباب. ولنتذكّر أنّ هذه الفئة لم تتحرّك نتيجة لثورة ثقافية صنعها المثقفون، أو بتوصية من اتحادات وروابط الكتّاب. لقد خرجت من دون مثقّفين، ومن دون أحزاب أو نقابات تقودها أو توجّهها. ويبدو أنّ الجميع قد تفاجأ بما حدث، فعلت هنا وهناك بعض الأصوات الثقافية المؤيّدة، مثلما صدرت بعض بيانات التّأييد من عدد من اتّحادات الكتّاب. كان من المفترض أن ينخرط المثقّفون في الثورات الجديدة، وأن يغادروا إلى غير رجعة تلك الأطر الثقافية التقليدية البائدة التي حبسوا أنفسهم فيها ردحاً طويلاً من الزّمن. كان من المفترض أن يندفعوا بحماسة، ليقدّموا من خلال الثّورة مساهمتهم الجديدة المتميّزة، لولا تلك الأيدلوجيا الصارمة التي كانوا قد اعتنقوها، والتي شدّتهم إلى الماضي بقوّة، وصيّرت منهم محض جماعة سلفية أخرى.