ما زالت قصص تعذيب السجينات العراقيات واغتصابهن حديث المنابر السياسية والتظاهرات، إلا أن الدلائل على صحتها أو تلك التي تدحضها بقيت عصية على الصحافيين. وزارة العدل بذلت جهداً في حصر المعلومات في شأنها داخل مكاتبها، وكل ما كان يعرف يأتي من لجان وهيئات سياسية. أخيراً كان التضارب في تصريحات الخصوم السياسيين طاغياً على مشهد التحقيق في حال النساء داخل المعتقلات، لكن الوتيرة تسارعت حين صار إطلاق سراحهن مطلباً رئيساً لتظاهرات عمت مدن الأنبار والموصل وسامراء. وفي ليلة 4 كانون الأول (ديسمبر) 2013 بثت محطة «العراقية» (شبه الرسمية) عن الشيخ خالد الملا، عضو لجنة الحكماء التي تشكلت بعد مفاوضات مع رئيس الحكومة نوري المالكي، قوله إن «الحكومة أفرجت عن عشرات المعتقلات بتهم جنائية». الملا نفسه تحدث قبل ذلك بساعات عن «نفي قاطع لحدوث عمليات اغتصاب»، ليس هذا وحسب بل إنه «هدد بمقاضاة من روّج لأخبار من هذا النوع». ليس جديداً أو مفاجئاً أن تحدث مخالفات لحقوق الإنسان داخل السجون العراقية. فبعد عام 2003 تمكن العراقيون من التعرف إلى سجل حافل بالانتهاكات في سجون نظام صدام حسين. حتى إن الأسواق المحلية كانت تبيع أقراصاً تسجيلية لبعض ما حدث على يد رجال أمن قساة. «ألقت دائرة أمن الشمال القبض عليّ بتهمة الانتماء لحزب سياسي محظور، وقضيت سنوات في عنبر النساء داخل نزل في مدينة السليمانية يعرفه السكان آنذاك ب (الأمن الأحمر) كان الحراس يجمعون النساء في ساحة كبيرة، ويتناوب كل أربعة منهم على سجينة واحدة... يلعبون الورق على جسدها العاري، ثم يغتصبونها». هي قصة تعود إلى عام 1988 روتها شاهدة عيان، كانت ضحية ذلك السجن، وفضلت أن تعرف ب «أم زهراء» هي الآن فاقدة البصر. كثير من الشواهد حاكى مثل هذه القصة، ومنها صار العراقيون يرسمون واقعاً مخيفاً لما قد يحدث داخل السجون العراقية. لهذا، يبدو الحديث عن حال تعذيب أو اغتصاب هذه الأيام كافياً لإغضابهم. في تشرين الثاني (نوفمبر) 2012، تشابك نواب ائتلافي «العراقية» بزعامة أياد علاوي و «دولة القانون» بزعامة نوري المالكي بالأيدي داخل قبة البرلمان، بعد اتهامات وجهت للقوى الأمنية العراقية بتعذيب السجينات واغتصابهن. حدث هذا بعد يوم من إعلان البرلمان وجود 1030 عراقية في سجون البلاد يتعرض بعضهن للاعتداءات. ما يحدث اليوم يعزز القناعة بأن التغيير السياسي في البلاد منذ قيام تجربة ما بعد حزب البعث لم يشمل منظومة السجون في البلاد. وهنا يتجادل السياسيون العراقيون كثيراً في شأن استمرار توظيف رجال أمن تابعون للمؤسسة الأمنية القديمة. وتفيد منظمات عراقية بأن السجينات يواجهن أوضاعاً سيئة بينها الاغتصاب وأن عدداً منهن اعتقل بدلاً من أقارب لهن مطلوبين. ووفق تقرير أولي قدمته لجنة حقوق الإنسان البرلمانية، اطلعت «الحياة» على نسخة منه، عن المعتقلات في السجون العراقية فإن عدد الموقوفات والمحكومات في وزارة الداخلية بلغ 101 امرأة، وفي وزارة العدل بلغ 960 امرأة، وفي وزارة العمل 69 امرأة معتقلة أو محكومة. ويؤكد التقرير أن بعض مراكز الاحتجاز الموجودة تحت إشراف جهات أمنية لا تراعي تماماً ما هو موجود في وزارة العدل كما أنه لم يتم حسم الدعاوى القضائية الخاصة بالكثير من السجينات على رغم مرور وقت طويل على اعتقالهن. مجلس القضاء: حال اغتصاب واحدة وفيما أصرت وزارتا الداخلية والعدل على نفي تلك التقارير، أكد المتحدث الرسمي لمجلس القضاء الأعلى عبدالستار البيرقدار في تصريح خاص، أن جهاز الادعاء الذي كلفه المجلس إجراء زيارة ميدانية إلى سجن الحماية القصوى للنساء في الكرخ وسجن النساء في الرصافة وجد «أن ما تناقلته وسائل الإعلام عن وجود حالات اغتصاب لنساء موقوفات وسجينات لا يعدو مجرد ادعاءات لحال واحدة فقط، وهي سجينة مدانة بالإعدام عن جريمة قتل زوجها». ويوضح البيرقدار، الذي أرسل تصريحه عبر البريد الإلكتروني إلى «الحياة» أن «هناك ادعاءً بوجود حالتي تعذيب لامرأتين محكومتين بالإعدام عن جرائم قتل أيضاً»، وعلى ما يقول الناطق باسم القضاء العراقي فإنه «لم يتم التأكد من صحة هذه الادعاءات حتى اللحظة». وفي الوقت الذي يتفاقم الجدال السياسية في شأن أوضاع السجينات، أظهر القضاء العراقي اهتماماً أكثر بالملف، إذ يؤكد «مفاتحة وزارة العدل لتوجيه دائرة الإصلاح بعدم استلام أي موقوفة إلا بعد إجراء الفحص الطبي يوضح عدم وجود حالات تعذيب أو اغتصاب أو اعتداء من الجهات القابضة أو الجهات التحقيقية». ما تحدث عنه مجلس القضاء الأعلى لم ينفه رئيس الحكومة نوري المالكي الذي أكد وجود اعتداءات في تلك السجون ليصفها «بسلوكيات ضباط قد يكونون من أزلام النظام السابق أو لديهم انحرافات معينة». محاولات المالكي وتظاهرات الأنبار وحاول المالكي، منذ مطلع تشرين الثاني الماضي، التخفيف من وطأة الضغط الشعبي والسياسي، وشكل لجنة من الحكماء ورجال الدين لزيارة السجينات والتحقق مباشرةً من صحة هذه التقارير. وفي تصريح متلفز له تحمل مسؤولية «عقاب المسؤولين عن تلك الاعتداءات»، لكنه قال «عليهم إثباتها أولاً». قضية الاعتداءات على السجينات تزامنت مع ضغوط شديدة يتعرض لها رئيس الحكومة نوري المالكي، قد تحرج زعيم دولة القانون مع قرب الانتخابات المحلية. وتزامن ملفهن مع فورة العرب السنّة في محافظات الأنبار والموصل وسامراء في تظاهرات شلت الطريق الدولي السريع الرابط بين بغداد وعمان منذ أسابيع احتجاجاً على سياسات الحكومة والتي صار حل قضية المعتقلات في السجون الرقم واحد في لائحة المطالب. لكن الضغوط الشعبية والسياسية أفضت إلى محاولات لحسم الملف أو التخفيف من وطأته على الأقل، فمحاولة الحكومة إيجاد مخرج لنزع فتيل أزمة الاحتجاجات التي قد يصل صداها إلى محافظات جنوبية لا سيما أن المتظاهرين غازلوا التيار الصدري ذا القاعدة الشعبية العريضة برفعهم شعارات الثورة الحسينية، بعد حديث زعيمه رجل الدين مقتدى الصدر «المتضامن مع مطالبهم»، الأمر الذي دفع المالكي كذلك إلى إصدار أمر بإطلاق سراح فوري لكل امرأة اعتقلت من دون أمر قضائي وكذلك اللواتي اعتقلن بجريرة ذنب ارتكبه شخص من ذويهن، فضلاً عن تحويل السجينات المتهمات بقضايا جنائية فقط إلى إكمال مدة محكومتيهن في محافظاتهن. اغتصاب ممنهج... معلومات متضاربة ولعل الجدل حول صدقية ما تتعرض له المعتقلات في السجون لا ينفي ما سجله عام 2012 من حالات اغتصاب قام ببعضها أفراد في الأجهزة الأمنية. ومن تلك الحالات، أخيراً، ما تعرضت له فتاة من أهالي ناحية النمرود ذات ال17 ربيعاً شمال شرقي محافظة الموصل على يد ضابط ينتسب إلى الفرقة الثانية من الجيش الحكومي والتي لا تقل بشاعة عما تعرضت له من قبل الطفلة بنين حيدر (4 سنوات) في محافظة البصرة عندما قام أحد عناصر استخبارات الفرقة ال14 باختطافها واقتيادها إلى مكان مجهول في مدينة خور الزبير واغتصابها لأكثر من مرة قبل أن يقرر إنهاء حياتها بطريقة وحشية بإلقاء «حجر كبير» على رأسها أودى بحياتها في الحال، ومن قبلها عبير عبد علي (5 سنوات) من محافظة البصرة أيضاً التي خطفها أربعة أشخاص تناوبوا على اغتصابها وضربها. وقد تكون قصص الاغتصاب تلك ساهمت في تغذية الشعور بالعدائية تجاه المؤسسة الأمنية العراقية سواء تلك التي ارتبط اسمها بالنظام السابق أو حتى الأجهزة الأمنية الحالية، وهو ما سمح للخصومات السياسية أن تدخل على الخط، خصوصاً مع ملف حساس كالاغتصاب. ومع تزايد حالاته في العراق، العام المنصرم، أبدى بعض المراقبين تخوفهم من تحوله إلى حال ممنهجة تدفع إلى التحقيق في طبيعة تكوين المؤسسة الأمنية بخاصة تلك التي تشرف على السجون العراقية. إلا أن فتح ملف اغتصاب نساء عراقيات وتعذيبهن في السجون ما زال يثير حزمة خلافات سياسية لم تنته حتى الساعة وهي نفسها التي قد تنبئ بتغييرات وشيكة مقبلة.