على رغم الحضور الفكري والأكاديمي لتركي الحمد، إلا أنه لم يُحدث رجّة في البُنى الاجتماعية، ولم يتردد اسمه بقوة في واجهة المشهد الثقافي إلا بعد إصدار ثلاثيته (أطياف الأزقة المهجورة - العدامة - الشميسي - الكراديب). حيث قارب المسكوت عنه من خلال الخطاب الروائي، فصار أقرب إلى وعي وإحساس الجمهور. أما مقاربة المحظور، فلم تكن تعني المس بالرسمي والمؤسساتي وحسب، بل نبش الاجتماعي والخزين التاريخي المشترك، بمعنى إبداء الرأي النقدي تحديداً في التجربة والخبرة العامة. لقد عُرف تركي الحمد بكونه شخصية مفكرة تتعاطى النظرية بمعناها الأكاديمي والمدرسي في عدة منابر، كما بدا ذلك جلياً في كتابه «دراسات آيديولوجية في الحالة العربية» الصادر عام 1992، وهو عبارة عن مجموعة من الدراسات المنشورة في أماكن ومناسبات مختلفة، والمكتوبة بلغة تنظيرية نخبوية تعكس تعالياته المعرفية، وتكشف عن قدرته على الخوض في النظريات الكبرى والاستشهاد بأمهات الكتب، إلا أنه لا يكشف عن وجهة نظر ذاتية إزاء مجريات العالم إلا في حدها الأدنى. بعد ذلك بعام، أصدر كتابه «الثقافة العربية أمام تحديات التغيير» الذي ينم عنوانه كما يتضمن موضوعه، رغبة أكيدة في الفرار من قوالب النظريات إلى مغامرة إبداء الرأي ومناقدة أصوليات الثقافة العربية. وهي المرحلة التي بدأ بروزه فيها ككاتب رأي يراجع ما كانه، ويموضع ذاته الجديدة في ما يتمنى أن يكونه. فهو زمن المراجعات الذي التبس بلحظة التراجعات. ولذلك بدا حينها مهجوساً بفكرة «التغيير» التي استهل بها كتابه، وأكثر من الطرق عليها في سياقات الكتاب، كما نوّع عليها بمختلف الاحتمالات والمواضعات. ولم تكن اندفاعته تلك نتيجة تفكير ذاتي وحسب، بل بسبب جملة من المتغيرات الدولية، إذ سقط المعسكر الشرقي بكل دعاواه وتبشيراته الأممية، وهو المشهد الذي وصفه بعبارات توحي بالمباغتة «انهيار ما لم يكن متصوراً انهياره من نظم وقيم ومعسكرات». كما كان لأزمات الخليج أثرها في الوعي والوجدان العربي، إذ شكل «اجتياح العراق للكويت مفاجأة لمعظم مثقفي العرب» بحسب وصفه. ولم يكن هو ذاته بعيداً عن تلك الآيديولوجيات التي تغذى على تنظيراتها في صباه وانتمى إلى تمثيلاتها كحزبي. وهو ما جعله يعلن لحظتها عن «انفجار كثير من المفاهيم المعشعشة في الذهنية العربية، وكان ذلك من الممكن أن يؤدي إلى ثقافة عربية جديدة بدءاً من الثقافة السياسية ذاتها». في تلك المرحلة المضطربة والمتسارعة، انشحن تركي الحمد بالأفكار، واستطاع بالفعل أن يبدى وجهات نظر انقلابية جريئة إزاء انتماءاته ومعتقداته السابقة. بمعنى أنه كان يعيش لحظة من لحظات انشقاق الوعي، وتغيير مواضعات تجربته الاعتقادية. وعليه، أراد تسريد كل تلك الانفعالات والمقاربات الفكرية، وتسجيلها في قالب روائي، يطل بها من وعيه الآني على ما كانه في ماضيه الآفل. وهكذا جاء الجزء الأول من ثلاثيته «العدامة» عام 1995، التي مثّلت حينها جرعة ناقدة، فيها مزيج من المساءلة والانسلاخ والتنكّب والبوح. وهو ما جعلها علامة روائية بارزة ومؤثرة. هذا ما تفصح عنه القراءة الأكرونولوجية لمنتجه الفكري والأدبي. وذلك أول شرط تولّدت فيه روايته. فقد انزاح في ذلك المفصل إلى السرد بكل حمولاته وخزينه من الآراء. إذ انكتبت الثلاثية التي تغطي محطة زمنية بين 1967-1975، تحت مظلة آرائه التي أطلقها في تلك الفترة. ويمكن اختصارها في كتاب «الثقافة العربية أمام تحديات التغيير» وما يحفّ به من سجالات خصبة ومتشظية آنذاك. إذ تكاد كل عبارة سجالية فيه تجد لها ما يقابلها في الثلاثية. فقد أكثر من الطرق على مفردات: التغيير، القيم، المفاهيم، والمصطلحات، التي يحاول زحزحتها بقناعاته الذاتية الجديدة، المؤطرة برؤية موضوعية. إذاً، الثلاثية هي الترجمة الروائية لآرائه. إذ تعادل سيرته الفكروية بمعنى ما من المعاني. وهو ما يفسر استئثاره بالسرد على رغم ما تبدو عليه الرواية كمائدة موضوعاتية. كما يفسر أيضاً اكتظاظها بالسجالات الحادة، وحضور فعل التسمية للآيديولوجيات والتيارات بمسمياتها الصريحة. وكأن ذات تركي الحمد الفردية تحاول الانغسال من تلك المعتقدات واللحاق بالمتغيرات الدولية السريعة والمتبدّلة، كما تمثلت حينها في النظام العالمي الجديد، إذ لاحظ أن «الموقف العربي عامة - خصوصاً موقف النخب الثقافية - تجاه قضية النظام الدولي الجديد، هو الرفض المطلق لكل شيء وأي شيء، وكأننا مخيرون في الرفض أو القبول». في الكتاب يتلذذ تركي الحمد بوصف التحولات الدراماتيكية الحاصلة في العالم، «تفتّت دول واتحاد دول وظهور دول وموت دول وغير ذلك من أمور تحدث أمام أعيننا بوتيرة هي من السرعة والجذرية، بحيث أصبحنا نحن أبناء هذا الجيل شهوداً على مراحل وحقب». وبقدر ما يستعرض بشكل سردي الوقائع والأحداث يسجل موقفه ورأيه منها «في أزمة الخليج وحرب الخليج تجمعت كل خصائص الثقافة العربية المعاصرة، من ماضوية ورمزية أسطورية وأحادية رغبوبة، لتنتج لنا خطاباً مفصول الجذور عن الواقع». على إيقاع تلك اللحظة المتسارعة كانت تتولد قناعاته الجديدة، في ظل انهيار النظم الشمولية. ولذلك بدا فارزاً ومتخففاً من عناوين الآيديولوجيات المركزية، وكما سيظهر في الثلاثية منسوب دراية الحمد بالنظريات والأفكار الكبرى، سيظهر أيضاً هذا النفس السردي المستمد من صيرورة الأحداث والمحقون بالسجالات وروح المناقدة، بل هو الذي سيتسيّد أجواء الثلاثية، فقد قرر على ما يبدو أن يفكك آليات «الخطاب العربي الغارق في وجدانياته ورمزيته»، وهو ما ظهر بالفعل في عباراته الجارحة «نحن أمة لا تعرف ماذا تريد، لأنها أمة محكومة بمفاهيم ثقافية ذات خصائص تقيّد». كل هذا كان يحتاج إلى شخصية قادرة على مراجعة الواقع بروح ناقدة، بطل يحتضن التوق الإنساني الجارف لكل التكلسات، ولم يكن ذلك سوى هشام العابر الذي يمكن أن يترجم عباراته وآراءه في نص روائي «الإنسان، فرداً أو جماعة، ينحو في كثير من الأحيان إلى تقديس الكلمات والمفاهيم والمصطلحات، وإعطائها بعداً ثابتاً بحيث تتحول مثل هذه المفاهيم والمصطلحات والتصورات والأحكام إلى قيد على الإدراك، ومن ثم التمثّل ومن ثم الحكم على الأشياء والعلاقات، وبذلك فإن الوسيط الذي يقف بين الذهن والموضوع يتحول إلى نوع من الحجاب أو الستار مما يؤدي إلى تعطيل الفعالية الإنسانية». هكذا اندس بوعيه في شخصية هشام العابر، وصار يحلل ذلك الخطاب في سياقات السرد. وكل ذلك ضمن رغبته المعلنة للتحلّل من «بنية العقل السائد وخصائص الثقافة المهيمنة». فهو الآن لم يعد قومياً بالمعنى المرضي للآيديولوجيا. وقد صار في حل من كل ما تغلغل في وعيه من الأدبيات الماركسية، ويريد أن يعانق الحقيقة التي تفرضها التبدّلات الجارفة، فنحن نعيش برأيه «في عالم سريع الخطى، آني التحول والتغيير تتحول التصورات والمفاهيم فيه تحولاً سريعاً نتيجة التحول السريع في ذات العالم الذي لا يعترف بالثبات المطلق». إن قياس تلك النقلة ما بين الرأي السياسي المحض باتجاه أدبية السرد، يمكن اقتناصها بتتبع سيرة هشام العابر، فهو في «العدامة» قارض كتب وأفكار ومشروع مناضل سياسي، وفي «الشميسي» ذات لهوية تائهة ومذعورة، أما في «الكراديب» فهو كائن سجالي امتلك زمام مبادرة انتاج قناعاته الذاتية، وبات يؤهل نفسه للفرار من الثقافة الحزبية والانسلاخ من ضغوطاتها.