في حشد لم يشهد له قطاع غزة في تاريخه الطويل مثيلاً، احتفلت حركة «فتح» أمس بالذكرى ال 48 لانطلاقتها وانطلاقة الثورة الفلسطينية المعاصرة. ومثل السيول الجارفة، «غمر» مئات آلاف «الغزيين» الشوارع وصولاً إلى ساحة السرايا وسط مدينة غزة التي أطلقت عليها «فتح» ساحة الشهيد ياسر عرفات، في مشهد مبكٍ مفرح طال انتظاره. واعتلى الآلاف أسطح المنازل المجاورة، فيما احتشد عشرات الآلاف في الشوارع المحيطة بالساحة وخلف منصة الاحتفال. ووقع مشهد الحشود كالصدمة على قادة «فتح» قبل «حماس» التي تباهت في الثامن من الشهر الماضي بمشاركة مئات الآلاف في حفلة انطلاقتها في ساحة الكتيبة التي تبعد مئات الأمتار عن السرايا. وقدرت «فتح» بنحو مليون فلسطيني، أي ما يعادل ثلثي سكان القطاع البالغ عددهم نحو 1.7 مليون مواطن، عدد المشاركين في مهرجان «الدولة والانتصار» احتفاء بقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة في 29 تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي رفع مكانة فلسطين إلى صفة دولة بصفة مراقب. ورفع المشاركون في المهرجان رايات «فتح» الصفراء، ورددوا هتافات مؤيدة للرئيس محمود عباس. كما رفعوا صوراً للرئيس الشهيد ياسر عرفات والقيادي المفصول من الحركة محمد دحلان. وعزا مراقبون مشاركة هذه الحشود الهائلة في المهرجان إلى حفاظ «فتح» على شعبيتها في القطاع على رغم القمع وحظر نشاطاتها خلال السنوات الخمس الماضية التي أعقبت الانقسام وسيطرة حركة «حماس» على القطاع وإحكام قبضتها عليه، وكذلك إلى النقمة على سياسات الحركة الإسلامية المعارضة لاتفاقات أوسلو والتي تتمسك بالمقاومة خياراً استراتيجياً. كما عزا هؤلاء ارتفاع أعداد المشاركين إلى مشاركة أنصار فصائل منظمة التحرير الفلسطينية، فضلاً عن مواطنين عاديين لا يرون في «حماس» وسياساتها الفصيل المفضل لديهم، اضافة إلى تقديم دليل للحركة على أنها لم تعد الفصيل الأول على قمة الهرم السياسي الفلسطيني، علاوة على رفضهم الانقسام وتداعياته ونتائجه. وحمل المهرجان رسائل أخرى إلى إسرائيل مفادها بأن الشعب الفلسطيني في غزة قادر على النزول إلى الشوارع في أي وقت، ومصمم على إنهاء الاحتلال وإقامة الدولة المستقلة وعاصمتها القدس، ويمكن أن تندلع انتفاضة ثالثة في أي لحظة ما لم يتوقف الاستيطان والاحتلال. فيما وجه المهرجان رسالة إلى الإدارة الأميركية والمجتمع الدولي مفادها بأن الشعب الفلسطيني يتوق إلى الحرية والعدل السلام ولا يزال يتمتع بحيويته المعهودة. كلمة عباس وتعهد الرئيس عباس في كلمته للمشاركين في المهرجان بأن «نلتقي بكم في غزة الأبية في القريب العاجل». وأضاف: «إننا بعون الله، وبتصميم شعبنا وبدعم الأصدقاء والأشقاء والعالم الحر، سنحقق أهدافنا، وسنحتفل بذكرى قادمة لثورة انطلقت حتى تحقيق النصر، فالنصر قادم قادم قادم». وزاد: «نولي جل اهتمامنا لإنهاء الحصار عن غزة لتكون حرة طليقة موصولة بباقي أجزاء الوطن». وقال: «يلتقي جمعكم الحاشد هذا، في ذكرى ثورتكم التي انطلقت في أصعب الظروف، فقد كان حالنا يوم انطلاقتنا أصعب مما هو عليه اليوم، فلم يكن العالم يعترف بوجود شعبنا خارج وضعية اللجوء والبؤس، ولم تكن لنا كيانية ولا دولة على الخريطة السياسية للعالم الذي صنفنا كقضية لاجئين بحاجة إلى الإحسان فقط، لكن طليعة من هذا الشعب الأبي قررت تغيير مجرى التاريخ، فكانت ثورتكم المعاصرة التي نقلت قضية شعبكم، بالتضحيات والعزيمة والإيمان، إلى وضعية دولة لها علمها الذي يرتفع جنباً إلى جنب، مع أعلام بقية دول العالم في الأممالمتحدة». وقال إن «فتح الأمس هي فتح اليوم، انطلقت من أجل فلسطين، وظلت فلسطين هي بوصلتها، ملتزمة طيلة مسيرتها مبدأ لم تحد عنه، وهو أن الولاء هو للقضية، وأن الوحدة الوطنية هي الأساس الذي يقوم عليه العمل الوطني الفلسطيني، وأن الحفاظ على الشخصية الوطنية له الأولوية، فلولا الوحدة في إطار منظمة التحرير الفلسطينية، ممثلنا الشرعي الوحيد الذي لا يقبل القسمة ولا الاستبدال، لما استطعنا أن ننقل حال القضية، من وضعية البؤس، ومن حجم خيمة لاجئين، إلى وضعية القضية الأهم على المسرح الدولي، وفي هذا السياق النضالي البطولي، أضحت القضية الفلسطينية، رمزاً للتحرر وللتحدي والتمرد على الظلم والطغيان، في العالم أجمع». وشدد على أن «شعبنا الفلسطيني بأسره، يعيش تحت الاحتلال وفي الحصار، فيما عيوننا شاخصة وقلوبنا تتجه إلى القدس التي تتعرض لأعتى عملية استيطان، يسابق فيها المحتلون الزمن، ويظنونها سانحة، وواجبنا جميعاً في هذه المناسبة، فلسطينيين وعرباً ومسلمين ومعنا أحرار العالم، أن نوحد جهودنا وقلوبنا وعزائمنا لإنقاذ القدس، عاصمتنا الخالدة، وذلك من خلال توفير سُبل الصمود ومقوماته، ومساندة أبناء المدينة الأبرار، مسلمين ومسيحيين». بيان «فتح» وقالت «فتح» في بيان وزعته خلال الاحتفال إن «سبعة وأربعين عاماً طوتها الثورة الفلسطينية المعاصرة، بسواعد أبناء حركة فتح العملاقة، وتستهل عامها الثامن والأربعين وهي أكثر تصميماً وإصراراً على مواصلة الدرب من أجل نيل الحرية والاستقلال، وتجسيد الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشريف». وأضافت: «في الأول من كانون الثاني عام 1965، كانت الولادة من رحم الجرح والألم، لتصنع فتح تاريخاً فلسطينياً رائعاً، عمدته دماء الشهداء وأنات الجرحى وعذابات الأسرى وآهات المبعدين، لتكون أول الرصاص وأول الحجارة، وأول كل فيلق عابر بثقة وإرادة صوب هدفه في فلسطين الحرة الأبية». وزادت أن «فتح قادت ثورة الشعب الفلسطيني بثبات وعزم، وكرس الرقم الصعب الرئيس الشهيد الخالد ياسر عرفات استقلالية القرار الوطني، وإعلان الاستقلال عام 1988، وأسس السلطة الوطنية الفلسطينية عام 1994 على طريق الاستقلال التام، ليكمل الرئيس القائد محمود عباس المسيرة عام 2012 بإتمام أولى خطوات ترسيخ حلم الأجيال بحصول فلسطين على صفة الدولة غير العضو في الأممالمتحدة». وأكدت «وحدة الأرض ووحدة الهوية ووحدة الشعب ووحدة المصير، ليشكل صمود شعبنا البطل في قطاع غزة خلال العدوان الإسرائيلي الأخير منارة أمل ودليل وحدة للشعب الفلسطيني الذي مل الانقسام والتشتت، ولتخط دماء الشهداء الأبرياء خريطة طريق جديدة لوحدة شعبنا والتفافه خلف ثوابته الوطنية». وقالت إن انطلاقتها «مناسبة ومحطة مهمة للتأكيد على الثوابت الوطنية التي لا يمكن أن يختلف عليها فلسطينيان، فلا تراجع عن حق العودة للاجئين، ولا تنازل عن القدس عاصمة أبدية للدولة الفلسطينية، ولا مناص من انسحاب إسرائيل من كامل أرضنا المحتلة عام 1967، بما فيها المستوطنات التي يتوجب تفكيكها واقتلاعها، ولا بديل عن الاستقلال التام، ولا مجال للتنازل عن وحدة تراب الأرض الفلسطينية». وجددت «فتح» التأكيد على أنها «ستواصل مسيرتها الكفاحية، باستخدام شتى الوسائل النضالية، من أجل محاربة التغول الاستيطاني في الضفة الغربيةوالقدس، ومقاومة السياسة الإسرائيلية القائمة على رفض حل الدولتين والتنكر لحقوق شعبنا المشروعة، والعمل على كل الجبهات من أجل تعزيز صمود شعبنا وثباته على أرضه في مواجهة مخططات التصفية والتهويد والتوطين والحلول الموقتة التي تسوق لها جهات دولية وإقليمية، واستمرار التمسك بالوحدة الوطنية التي آمنت بها فتح دوماً على قاعدة وطن واحد لشعب واحد». إلغاء فقرات بالمهرجان وتحت ضغط «تسونامي» الأمواج البشرية، اضطرت قيادة «فتح» إلى إلغاء معظم فقرات المهرجان في أعقاب كلمة الرئيس عباس. وتم إلغاء كلمة «فتح» أو القوى الوطنية والإسلامية وكلمة المرأة، فيما لم تتمكن فرقة أغاني «العاشقين» القادمة من مخيم اليرموك من تقديم وصلة فنية بسبب التدافع الذي أودى بحياة شاب وأدى إلى إصابة أكثر من 30 آخرين، عدد منهم في حال خطرة. واحتلت الجماهير الغفيرة منصة المهرجان انطلاقة حركة «فتح» بعد الانتهاء من كلمة الرئيس عباس، وصعود الفرقة إلى المنصة، ما اضطر رجال الأمن والنظام إلى إخلاء أعضاء اللجنة المركزية وقيادات الحركة. وقالت عضو اللجنة المركزية ل «فتح» أمال حمد إن «إلغاء ما تبقى من برنامج المهرجان ناجم عن تزايد الحشود واندفاعهم تجاه المنصة، وكثافته في أرض السرايا وما حولها، وحرصاً على سلامة الجماهير». وكان مقرراً أن يشارك وفد من قيادة «حماس» في المهرجان، إلا أن «حماس» قالت إن «فتح» طلبت منه عدم الحضور بسبب الفوضى وفقد السيطرة على منصة الحفلة. وقال عضو المكتب السياسي ل «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» الدكتور رباح مهنا في حديث إلى تلفزيون «فلسطين» الرسمي إنه لم يشهد في حياته مثل هذا الحشد الكبير الذي يجب على الجميع أن يأخذ العبر منه ويعمل جاهداً على تمكين الوحدة». وأضاف أن «هذا المشهد الرهيب وغير المسبوق له دلالاته الكبيرة، وأن على حماس وغيرها الاستفادة من رسالة الجماهير بأنكم لستم وحدكم». وقال نائب رئيس الهيئة القيادية العليا ل «فتح» في القطاع يحيي رباح إن «هذا اليوم الأسطوري يدل على أن فتح باقية وجذورها ممتدة في الأرض، وأن مشروعها أكبر من أن يُجتث وهو في أوج تألقه». وكان مئات الآلاف بدأوا بالتدفق من كل مدن القطاع منذ فجر أمس إلى ساحة السرايا في مدينة غزة، فيما آثر آلاف آخرون المبيت في الساحة ليل الخميس - الجمعة. ونقلت مئات الحافلات الكبيرة وآلاف السيارات المشاركين من مدن ومخيمات القطاع من رفح جنوباً وحتى بيت حانون شمالاً. كما خصصت «فتح» أكثر من 50 قارباً بحرياً لنقل المواطنين من رفح وخان يونس إلى مدينة غزة عبر البحر. وقدمت الحكومة التي تقودها «حماس» التسهيلات المطلوبة لإحياء الذكرى وإنجاح المهرجان. وعمدت عناصر الأجهزة الأمنية التابعة لحكومة «حماس» إلى الابتعاد عن السرايا ومحيطها القريب، وانتشرت في معظم شوارع مدينة غزة، خصوصاً المربع المحيط عن بعد بساحة السرايا لتسهيل حركة مرور المركبات والمواطنين وتوفير الأمن والأمان. وقالت وزارة الداخلية إن الإدارة العامة للعمليات المركزية أعدت خطة كاملة متكاملة لتأمين وتسهيل إتمام المهرجان. وقال الناطق باسم الوزارة إسلام شهوان إن المهرجان «مر بسلام». وأشاد «بحكمة الأجهزة الأمنية والشرطية في تعاملها مع المشاركين في المهرجان وتحليها بالصبر والمساهمة بخروج هذا اليوم على رغم بعض المضايقات التي شهدتها فعالياته». في سياق متصل، قال رئيس حكومة «حماس» غزة إسماعيل هنية إنه «تلقى اتصالاً من قادة فتح تشكره على الجهود والروح التي أبدتها الحكومة وحركة حماس لتسهيل الاحتفال».