كل الأغاني تجمعها البهجة، حتى تلك التي تلوح بأحزانها الخاصة، لكنها تغدو مختلفة حين يتّسع فيها الحنين ويتلوّن بإيقاعات عصر محتدم. إنها تغدو النشيد الشامل حين تعبر المحبة كفعل خاص إلى تصوير ملامح العناء الإنساني على امتداد الأرض. هكذا فعلت فرقة «بينك فلويد» (pink floyd) الانكليزية يوم كان روجر ووترز كاتب وملحن الكثير من أغانيها وصاحب رؤيتها الفكرية والموسيقية... يُعنى بكل ذلك. وهو رائد في مجال الأغنية التعبيرية، بعدما أكد ما بدأ به في العمل الشمولي «الجدار» (The wall) الذي صدر في العام 1980 وسخر من القيم السائدة في مجمل البناء الاجتماعي الاقتصادي والسياسي الغربي بعامة الذي كان بمثابة «جدار» فعلاً. علماً أن العمل بُني على سيرة ووترز الذي فقد أباه جندياً في الحرب العالمية الثانية وهو بعد طفل. لم تكن الفرقة تلقي بالاً لطريقة التوزيع الغنائي النمطية، على رغم رصانة انتمائها الإنكليزي موسيقياً. فأعمال «بينك فلويد» تنمو على أثر موضوع واحد من دون انقطاع. تمضي الأغنيات وثمة رابط تعبيري يُغني الموضوع ويصل بين مقطع وآخر. فلا بأس باستخدام مؤثر صوتي للهاتف، والحديث الرتيب وصوت المذيع في الراديو وعجلة مسرعة، وخطى قادمة على رصيف، لتجسيد حالة تصويرية عن وحشة إنسان وحيد! أحلام ما بعد الحرب جمعت فرقة «بينك فلويد» وفي عملها الذي صدر في العام 1983 وحمل عنوان «الجرح النهائي» (The final cut)، ترانيم لأحزان وأحلام تستمد الأرض بمناطقها المفجوعة والمحتدمة، مثيرة موضوعاً أثيراً. وافتتحت الأغنية بخبر عن نشر الصواريخ النووية وإشارات إلى المناطق الساخنة في العالم بصوت يضج بالحزن (عن الأسباب التي جعلت حلم الطفولة الذي كان يكبر مع بيوت الطين المقامة على الشاطئ وتلك السفن الراحلة، يغدو رعباً حين يموت الأب في الحرب). وثمة صوت يتعالى في خلفيات الأغنية، لعربات قطار يرتطم بعضها ببعض، مقدمة لمقطع من التداعيات. هي أحزان ماضٍ شديد العتمة. فأغنية «أزمانك الماضية» (Your possible pasts) إنشاد حديث للحزن، فيه البداية تجيء كلمات تتردد، وتتصاعد بعمق الصوت المنشد، متفاعلة مع نهاية حادة فيها للضربة الموسيقية محدثةً وقعاً يشير إلى غربة الإنسان المحاصر بأحزان لا تنتهي. وفي هدوء تام تفرض الوحشة صمتها الأثير ويبدع الفريق في تصوير حالة الوعي الفردية ضمن هموم الجماعة الراحلة صوب المواجهة. وهذا ما نلاحظه في أغنية «واحد من قلة» (One of the few): «عندما تكون واحداً من قلة/لأرض تعبرها قدماك/ما الذي تفعله/تجعله مجنوناً/تجعله حزيناً/تجعله يضيف ويضيف/تجعله يعشق/ تجعله يسقط ويموت»... هنا تأخذ الفرقة الغضب والمشاعر الإنسانية التي تتناقض مع رومانسية تثيرها الأغنية، بعيداً من السائد. وتسخر في الاسطوانة من سياسات الرئيس الاميركي (حينها) رونالد ريغان، ومن رئيسة الوزراء البريطانية مارغريت ثاتشر. تُغني للأبطال «المهزومين» وترسم من ذكريات العائدين، رجفة القلب والمحبة، بل هي في إشارات الحرب تقيم تصوراً لعالم لا بد له من أن يرمّم جروحه ليطلع الى الحياة حراً وآمناً. وهكذا بدا من الطبيعي أن يكون روجز ووترز، بعدما ترك الفرقة الشهيرة، نجماً لامعاً في أوروبا، لا سيما بعد انهيار «جدار برلين». كأن العمل الذي صدر قبل نحو عقد من انهيار «المعسكر الاشتراكي»، كان يحمل نبوءة ذلك الانهيار المدوّي، وكان من الطبيعي أن يقدم ووترز عمله في برلين عبر رؤية سينوغرافية مدهشة، ليست أقل تأثيراً من الصورة السينمائية للعمل كما أبدعها المخرج البريطاني آلن باركر. وفي العام 1992 قدم ووترز عملاً منفرداً ضمن أسطوانة بعنوان «يتسلّى حتى الموت» (Amused to death) وفيه نقد جارح وعميق لحرب الخليج الثانية التي خلّفت مشاهد مروّعة شكلها آلاف العراقيين القتلى في «طريق الموت». وعلى رغم عودته «المناسباتية» الى فرقته الاصلية «بينك فلويد» بين فترة وأخرى، ظل يفضّل إقامة حفلاته الشخصية ضمن جولات تأخذه الى مناطق عدة من العالم، ومنها حفلته في العام 2006 في ولاية فيرجينيا حيث غنى «الرحيل عن بيروت» التي كانت تشنّ اسرائيل حرباً عنيفة عليها. ويصور فيها أيام شبابه في مدينة أحبّها وظل مخلصاً لصورتها، فضلاً عن كون الإخراج الصوري للأغنية (شاشة عملاقة تعرض فيلماً للرسوم المتحركة) يدين القصف الاسرائيلي على بيروت، مثلماً يدين جدار الفصل العنصري بين اسرائيل والضفة الغربية، في مزيج من الروك والجاز، وذلك ضمن نص يسخر من جورج بوش الابن والارهاب و «القصة التي لا يعرف كيف ستنتهي» عن القسوة والفظاظة في الحياة. وفي حين كانت عيون كثيرة تتطلع نحو مقر الاممالمتحدة لتشهد حدثاً مميزاً هو منح فلسطين صفة «دولة مراقب»، لم يفطن كثيرون الى ان من كان روّج للفكرة وناصرها عبر أبواب ثقافية وسياسية عدة، هو صاحب كل ذلك السجل النقدي في الاغنيات والموسيقى. العضو البارز في الفرقة الاشهر في موسيقى الروك «بينك فلويد». وصاحب أسطوانة «الجدار» التي ما انفكت حتى اليوم تحتل مراتب متقدمة ضمن أكثر 100 أسطوانة رواجاً.