علي الشدوي لا يمكن أن نفصل تصاعد الصراع والعنف الثقافي في العالم العربي عن تصوّر ادعاء جماعةٍ ما امتلاك المعنى. وعلى افتراض أن هذا يحدث بين فئتين أو أكثر، فإن الصراع والعنف ينتج عن فئة تعتقد أنها امتلكت المعنى، وإن لم يشاركها الآخر في المعنى نفسه فيجب أن يُفرض عليها. إن الفهم الأعمق للصراع الثقافي يبرز ونحن نتحدث عن التعدد الثقافي، ذلك أن المعنى لا يُكتشف كما يكتشف البترول في دول الخليج، إنما يكوَّن ويُبنى كما الأهرامات في مصر. وإذا كان البشر مختلفين، فسيكونون معنى مختلفاً. وبالرغم مما أُخذ على السماح بتعددية المعنى من قبل البشر من أنه يحدث فوضى، إلا أننا يجب أن نتحمّس لهذا التعدد، ونعتز به، ذلك أننا يجب أن نفهم كيف أن البشر مختلفون، ولذلك فهم مبتكرون بشكل لافت وبديع، ولا بد لنا من أن نبعد الفكرة التي تقول إن البشر لا يكونون المعنى. لماذا يجب أن نتحمس لهذا التعدد في تكوين المعنى؟ لأن طرق تفكير الناس مختلفة، ولأن المعنى ليس شيئاً يمكن أن يمنحه أحد لأحد، ولأن المعنى ليس ثابتاً ولا نهائياً، وأخيراً لأن المعرفة عملية تغيير مستمرة، فما يعترف به الناس اليوم على أنه حقيقة، يُعتبر موقتاً، وبالتالي تكون معرفتهم معرّضة للتغير في ضوء ما يستجد من أفكار وخبرات. عندما يتم الاعتراف بأحقية فئة في أن تكوّن معناها تصبح القراءة شيئاً أكبر من مجرد علاقة بين إنسان ونص، وتتحول من حيث هي تكوين للمعنى المختلف والمتعدد من قبل قراء مختلفين ومتعددين، إلى فضائل يومية، وإلى طرق يعتادون عليها، ليس فقط في القراءة بل في الحياة. يدرّب التعدد في تكوين المعنى الفئاتِ الاجتماعيةَ على الحياة، وكيف أن كل واحدة منها تكوّن وجهاً من وجوه الحقيقة، وجانباً آخر من جوانب الواقع. كل فئة تضيف لوناً آخر لِطَيْف الحياة، فالحقيقة إن وُجدت تتطلب -كما قال يونغ- كونشرتو من الأصوات المتعددة. نجوى بركات لم يتبدَّ لي يوماً أننا مجتمعات تنبذ العنف أو أن العنف طارئ أو غريبٌ عليها. فالبركان وإن لم يظهر إلى السطح يبقى بركاناً في العمق، وما لحظة انفجاره إلا لحظة الكشف عن مكنوناته. نحن في لحظة خروج البركان هذه. لقد انفلت العنف ولم يعد حكراً على رموز سلطة ما، أيّما سلطة، ليصبح لغة وحركة أبناء أزمنة الكبت والقمع والمهانة. وتماماً كما ترى مجتمعات متقدّمة في الانفتاح أو التسامح قيمة، رفعنا نحن المجتمعات العربية العنفَ إلى مصاف القيمة. فمفاهيم كمفهوم الذود عن العرض مثلاً، تبرّر القتل وأفعالاً بربرية كجرائم الشرف والأخذ بالثأر وتمجيد القوة والبطش... ليس العنف أمراً خارجاً على الطبيعة البشرية. إنما مقياس التطوّر هو في قدرة حضارة ما على تقنينه والتحكّم بمجراه. ولا بأس في أن نعيد ونكرّر، أن ثقافة العنف هي ابنة الجهل كما أن ثقافة السلام هي ابنة المعرفة، وأننا متى ثرنا على الجهل أسّسنا ربما لربيع حقيقيّ. محمد الحرز التحول الديموقراطي في أواخر القرن الماضي المنصرم، بعد سقوط المعسكر الاشتراكي برمزيته الكبرى، التي تمثلت أيضاً في سقوط جدار برلين، هو السمة التي غلبت دول هذا المعسكر، فكان تحولها، كما عبر عنه صاموئيل هانتنغتون ب «الموجة الثالثة للتحول الديموقراطي»، خياراً شعبياً لا رجعة عنه. وكان ينتظر من الدول العربية أن تكون سبّاقة للانخراط في هذه الموجة، لكن شيئاً من ذلك لم يحصل، فأصبح الاعتقاد السائد في العالم عن مجتمعاتنا بأنها لا تملك القابلية في التحول الديموقراطي، بسبب الإرث الاستبدادي الذي طغى على تاريخها الطويل. وعندما جاء ما يسمى الربيع العربي، تسابق المحللون إلى التبشير بالموجة الرابعة للتحول الديموقراطي. لكن الدول الشيوعية في أثناء تبني شعوبها الخيار الديموقراطي، لم يصاحبه عنف يفتك بقيم المجتمع كلها وينتج ثقافة الكراهية، كما هو عليه الحال في مجتمعاتنا العربية. هذه المفارقة لا يمكن إرجاع أسبابها فقط إلى سياسة التآمر الخارجي. إنها إحدى النتائج الكبرى التي تتصل بثقافة العنف، وهي ثقافة تتدفق على الفرد والمجتمع من جميع الاتجاهات، خصوصاً تلك المرتبطة بمفاصل حياته: من النظام التربوي والتعليم، والعادات والتقاليد الاجتماعية، الى النظام السياسي الاستبدادي. ضمن هذه الثقافة، الفرد العربي مسلوب الإرادة، ممتلئ بالإحباط والكراهية ضد الغير،لا يملك تصوراً عن ثقافة الآخرين إلا باعتباره عدواً ينبغي القضاء عليه، يدعمه في تصوره هذا نماذج من ماضي التاريخ الإسلامي تحضر في حياته بقوة كقيم عليا يستمد منها معنى حياته، قيم مثل الجهاد، والاستشهاد، وتقديس العادات والتقاليد... فما حدث في العراق وليبيا واليمن، ثم في سوريا ومصر الإخوان، ليس سوى الدليل على طغيان ثقافة العنف على الحياة العربية بشتى صورها. إن ثقافة حقوق الإنسان وسيادة القانون والتنمية والديموقراطية والعلمانية هي التحدي الأكبر لمجتمعاتنا اليوم، وهو تحدٍّ مضاعف، بسبب تأثيرات ثقافة العولمة التي تنتهك الحدود والقيم والخصوصيات، وتعيد إنتاج القيم الأخلاقية والدينية والسياسية وفق مصالح ثقافة السوق، التي تهيمن عليها كبرى الدول والشركات. وانحسار الجهل والفقر هما الشرطان المقدمان على كل مشروع يرصد البناء والتطور. عماد أبو غازي عماد أبو غازي: أرفض مصطلح «العنف الثقافي»، فهو غير دقيق. فلو أن هناك عنفاً يمارس ضد مثقفين، فإن هذا العنف سواء كان لفظياً أو مادياً، لا يمارس عليهم لكونهم مثقفين، إنما لأنهم أصحاب مواقف سياسية مناوئة للسلطة. عبدالحكيم باقيس باتت مظاهر العنف تحيط بحياتنا من كل الجهات، بدايةً بعنف الأفكار والأيديولوجيات والسلطات، الى عنف العادات والتقاليد، وليس نهاية بالعنف الذي نمارسه على ذواتنا، فتحولنا جميعاً إلى ضحايا عنف وممارسيه، ولو بدرجات متفاوتة. غير أن عنف المثقفين هو الأكثر خطورة، ليس من حيث درجته أو مستوياته. قبل ثورات الربيع العربي، ما انفك كثير من المثقفين العرب، الذين شكل بعضهم جماعات «نخبوية»، أو «الإنتلجنسيا»، كما يصفهم البعض أحياناً، ينادون بتطبيق الأفكار الليبرالية والديموقراطية في العالم العربي سبيلاً للتقدم الحضاري، ويتوجسون من الجماعات «المغايرة» من التيارات المفارقة أيديولوجياً، كالرديكاليين و«السلفيين»، ويرسمون لهم صورة نمطية مكررة، بوصفهم متطرفين لا يؤمنون بثقافة الآخر أو التعايش معه، ويرفضون مبادئ المشاركة الاجتماعية والسياسية، وذلك ما عبر عنه الإنتاج الثقافي على نحو ملفت في العقدين الأخيرين، الإنتاج الأدبي، الدرامي والإعلامي، الذي ظل ينمِّط هذه الصورة السلبية، في تقاطب واضح مع صورة المثقف الإيجابية. لكن اليوم، في زمن الثورة العربية، زمن الاختبار الحقيقي للأيديولوجيات والأفكار الذي لا يضع السياسيين والاقتصاديين وحدهم، بل والمثقفين أنفسهم، في موضع المساءلة، أي رؤية استشرافية للمشهد القادم توحي بعنف ثقافي مفرط ربما يمارسه المثقفون على خصومهم الذين حشروهم في مأزق اختبار أيديولوجياتهم وأفكارهم الليبرالية؟ وهنا تكمن المفارقة العجيبة، إذ تتبدل المواقع بفعل ما أفرزته تحولات المشهد السياسي وممارسته الديموقراطية في بعض أقطار الربيع العربي. وقد يعزل فيها بعض المثقفين أنفسهم عن واقعهم ومجتمعاتهم، فيستعيرون خطاب نفي وإقصاء تجاهها، ويرسمون لها صوراً وهمية، فلم يعد ذلك الآخر مجرد فكرة تمكن مطارحتها في بياض الكتابة أو تنميطها وشيطنتها في المتخيل الثقافي، وإنما مجتمع عربي يخوض معركته ضد أصنام الاستبداد السياسي والاجتماعي والثقافي بعيداً من النخب الثقافية!! صحيح أن أكثر المثقفين العرب قد انحازوا إلى قيم الحرية والديموقراطية في ربيع الشعوب العربية، لكن جزءاً مهماً من نخبة الحداثة العربية لاذ بصمت عجيب في زمنٍ بات فيه الكلام أغلى من قناطير الذهب، فأصبح السكوت عنفاً مضمراً، وجماعة أخرى من المفكرين والأدباء والصحافيين والنقاد والفنانين وأمثالهم مارسوا خطاب عنف ثقافي وفكري معلن في تبشيع مجتمعاتهم والسخرية والاشمئزاز من خياراتها. ولم يتردد بعض المثقفين في وسم مجتمعاتهم بالأمية والجهل وعدم كفاءتها في اختياراتها الديموقراطية، فأخذ خطاب ثقافي في التشكل يؤمن بديكتاتورية النخبة، وإذا لم يتنبه أصحابه إلى متغيرات الواقع الثقافي وتحولاته الجديدة لَوُسِمَ هذا الخطاب بالعنف والتطرف، ولأصبحت شخصية المثقف المتطرف تحتل مكانة لا بأس بها في الأعمال الأدبية القادمة، في مقابل شخصية المتطرف الديني.