يمكن وضع عام 2012 في خانة أحد أكثر الأعوام التي برز فيها نشاط أحزاب وحركات يمينية - قومية متطرفة أو «نازية» جديدة في أوروبا، إن من حيث الانتشار والتنظيم والدعاية مع استخدام وسائل الاتصال الاجتماعي إلى جانب وسائل الإعلام التقليدية، أو من حيث العداء لكل ما هو ليبيرالي وتقدمي، مع تصعيد نوعي للعداء التقليدي لكل ما هو أجنبي أو «سامي» أو مسلم. ولا تخفي معظم هذه القوى مناهضتها الصريحة للوحدة الأوروبية والعولمة، ونيتها العمل على إسقاط الأنظمة الديموقراطية لإقامة أنظمة شمولية محلها بحجة الدفاع عن مصالح الأمة كما هي الحال في هنغاريا حالياً إلى حد كبير حيث وصل قوميون محافظون أشداء إلى السلطة. دور الأزمة الاقتصادية ولا شك في أن الأزمة المالية والاقتصادية التي لا تزال تعصف في أوروبا منذ عام 2007، والتي ستستمر بضعة أعوام أخرى على حد تأكيد قادة أوروبيين بينهم المستشارة الألمانية أنغيلا مركل، تلعب دوراً رئيساً في إعطاء هذه الأحزاب والحركات جرعة كبيرة من السخط والغضب على الأنظمة القائمة والدعوة إلى تغييرها، وإلى المطالبة بطرد الأجانب تحت حجة أنهم «يسرقون فرص العمل من الشعب». لكن العامل الاقتصادي غير كافٍ لوحده لتفسير تنامي هذه الظاهرة، خصوصاً في الدول التي لم تترنح تحت ثقل هذه الأزمة العاتية ولم ترتفع فيها البطالة. وتكفي نظرة سريعة على ألمانيا والدول الإسكندنافية التي لم تتأثر كثيراً بأزمة الديون في منطقة اليورو، ولا تشكل الهجرة غير الشرعية إليها مشكلة كبيرة، لتأكيد أن العامل الاقتصادي ليس السبب المباشر لتزايد قوة الأحزاب القومية المتطرفة والنازية الجديدة. أكثر من ذلك سجلت البطالة في ألمانيا، على سبيل المثل، تراجعاً كبيراً في السنتين الماضيتين واستقرت تحت حدّ الثلاثة ملايين، بمعدل 6,5 في المئة فقط، على عكس دول أوروبية أخرى مثل اليونان والبرتغال وإيطاليا حيث سجلت معدلاً مضاعفاً على الأقل، فيما وصلت البطالة في إسبانيا إلى 25 في المئة، وبين الشباب فيها إلى 50 في المئة. ومع ذلك تشهد الدول المنتعشة اقتصادياً صعوداً غير مسبوق للأحزاب اليمينية. فقد حقق حزب «الفنلنديون الحقيقيون» في فنلندا نجاحاً لافتاً في الانتخابات الأخيرة بعد حصده 20 في المئة من الأصوات على خلفية شعار شعبوي خلاصته الجملة الآتية: «نحن لا نفهم، لماذا ندفع للبرتغال» في إشارة إلى المساعدات الأوروبية إلى دول منطقة اليورو المتعثرة. وتحت شعارات مماثلة في السويد، شق الحزب اليميني المتطرف «السويديون الديمقراطيون» طريقه إلى البرلمان. «شوفينية» وخوف وتستغل هذه الحركات في البلدان الغنية خوف المواطنين من تدهور أوضاعهم، كما يقول فلوريان هارتلب الباحث في مركز بروكسيل للدراسات الأوروبية. ولأن «شوفينية الرفاهية» كما أسماها «هي أهم دافع يختار أبناء الطبقة المتوسطة هذه الأحزاب بالذات». وأضاف أن الهجوم الإرهابي الذي نفذه أندرس بيريغ بريفييك بدوافع يمينية متطرفة في صيف 2011 في النروج وذهب ضحيته حوالى ثمانين شخصاً «يُنظر إليه هناك على أنه عمل فردي وليس دليلاً على مشهد العنف المتصاعد». وفي ألمانيا هزّ الكشف مطلع العام عن حصول عشر جرائم قتل بدوافع عنصرية ودينية متطرفة على مدى عقد من الزمن، البلاد، بعدما تبيّن أن خلية من النازيين الجدد قتلت عشرة أشخاص (تسعة أتراك ويوناني وشرطية ألمانية) من دون أن تكشفها السلطات الأمنية، ما دفع كثيرين إلى تحميل مسؤولية الجرائم هذه إلى نزاعات «مافيوية» و «عشائرية». وبعد إلقاء القبض على بعض عناصر الخلية اتضح وجود علاقة بينها وبين «الحزب القومي الديموقراطي الألماني» المعروف بعقيدته «النازية». وتكشفت على الأثر فضيحة غير مسبوقة تمثّلت في قيام بعض الأجهزة الأمنية الألمانية بإتلاف وثائق تتعلق بنشاطات هذه الخلية بعد الكشف عنها، ما أدى إلى توجيه أصابع الاتهام إلى عدد من المسؤولين ودفع بالبرلمان الألماني (البوندستاغ) إلى تشكيل لجنة تحقيق لتحديد المسؤوليات. وكانت الحكومة الألمانية سعت عام 2003 في عهد الحكومة الاشتراكية - الخضراء إلى حظر الحزب النازي المذكور، لكن المحكمة الدستورية العليا رفضت ذلك لأن الحجج استندت في حينه إلى أقوال عملاء للأجهزة الأمنية ينشطون في صفوف الحزب. واليوم، وبعد عشر سنين تقريباً، تبحث الحكومة من جديد في إطلاق محاولة ثانية لحظره، علماً أن خبراء سياسة وباحثي اجتماع كثراً، يرفضون الفكرة لأنها ستجعل الحزب ينشط في السر، ما سيعقد عملية تعقب خطاه. إضافة إلى ذلك ثمة مجموعات يمينية متطرفة أخرى في البلاد أبرزها مجموعة «برو ألمانيا» المعادية للأجانب وللمسلمين في شكل خاص، وكانت وراء المعارك التي انجرّ إليها الإسلاميون السلفيون مع الشرطة الألمانية هذا العام. وفي بلجيكا حيث تحول حزب «فلامس بيلانغ» اليميني الشعبوي والعنصري إلى أحد أقوى الأحزاب السياسية الثلاثة في البلاد، ارتهن بقاء حكومة المسيحيين - الليبراليين الائتلافية، بدعم حزب الحرية اليميني المتطرف الذي يتزعمه غيرت فيلدرز الذي اشتهر بدعوته إلى خفض هجرة المسلمين إلى أوروبا. ويعتقد المؤرخ شتيفان سايديندورف، رئيس القسم الأوروبي في المعهد الفرنسي - الألماني في لودفيغسبورغ، بأن الثقافة الليبرالية في هذه البلدان قد تكون سبب صعود التيار اليميني. ويقول في هذا الصدد إن الرؤى الليبرالية التي تتعامل مع الناس من منطلق العولمة «أظهرت نقاط ضعفها في السنوات الأخيرة لأنها لم تتناغم مع الواقع». ويرى محللون أن فكرة العولمة مثلها مثل الوحدة الأوروبية أخافت مواطنين كثراً من فقدان استقلاليتهم الوطنية ومن غزو ثقافتهم وقوميتهم الصغيرة. وينطبق هذا بصورة كبيرة على شرائح مهمة من شعوب دول أوروبا الشرقية التي انطلقت من أنظمتها الديكتاتورية السابقة إلى العالم الأوسع دفعة واحدة من دون أي استعداد سياسي وثقافي ولغوي مسبق فوجدت نفسها في محيط هائج أفزعها. وفي فرنسا يعتقد محللون أن إفلاس الليبراليين الفكري فيها أصبح ملموساً، ففي حين كان النقاش يدور حول «الطبقة الوسطى العالمية» نشأت «غيتوات» فقيرة في ضواحي المدن الكبيرة شكلت مرتعاً للتطرف وللعنف. ولا يزال حزب الجبهة الوطنية برئاسة مارين لوبن، ابنة مؤسسه جان ماري لوبن، في طليعة الأحزاب والحركات اليمينية المعادية بشدة للهجرة وللمسلمين ولأوروبا. وبرز تأثير الحزب في الانتخابات الرئاسية الأخيرة حيث احتلت رئيسته المرتبة الثالثة فيها بعد فرنسوا هولاند ونيكولا ساركوزي. لكن الباحث هارتلب ينطلق من أن التغيير والتحول الديموقراطي «لا يمكن أن يكونا سبباً لصعود التيار اليميني بعد عشرين عاماً من تغيير النظام» مشيراً إلى أن دولاً مثل تشيخيا، سلوفاكيا، هنغاريا وبولندا لا تختلف من حيث النوعية عن الديموقراطيات الغربية، ومع ذلك تشهد صعوداً للتيارات اليمينية فيها. أما المؤرخ شتيفان سايديندورف فيرى أن خاسري الحداثة يلجأون في شكل متزايد إلى الأحزاب اليمينية، لافتاً إلى أن الهجرة عامل آخر يقف وراء هذه الظاهرة. ويعتقد البعض أن أوروبا ملزمة بالتعامل مع هذا الموضوع الحساس، لكن المشكلة تكمن في أن بروكسيل لا تملك سياسة هجرة مشتركة، وبالتالي فعندما تعجز الأحزاب الليبرالية الحاكمة عن حلّ المصاعب، يبحث كثيرون عن أجوبة لدى الحركات المتطرفة. ويبدو هذا العامل وكأنه قاسم مشترك بين الدول الأوروبية التي تشهد حالياً صعوداً للتيارات اليمينية.