إنها الواحدة بعد منتصف الليل. الموسيقى لا تزال «مستيقظة»، كما رواد المقاهي والمطاعم في مدينة المهدية الساحلية شمال شرق العاصمة المغربية الرباط. الأرصفة تعج بالبشر، أجانب ومغاربة وعرب يتنزهون على الشاطى. صوت الأمواج القادمة من المحيط الأطلسي هادر وقوي. إنها الثالثة فجراً، والموسيقى لا تزال تصدح في أرجاء المدينة. أعداد الناس في تزايد دائم، وكأن النوم في المهدية، خطيئة... باعة ينادون على بضائعهم، وشبان يقصدون المحيط ليغسلوا أجسادهم من عبق الليل والرطوبة. فتيات يقصدن ستينية لترسم على أيديهن بالحنة رسوماً تجلب السعادة والحظ. تتدافع الفتيات على العجوز لنيل بركتها والتزين، علهن يجدن نصفهن الآخر في مدينة الموسيقى. تشير الساعة الى الرابعة والنصف فجراً، الموسيقى على اختلاف أنواعها لا تزال «تتنزه» في المكان. تدرك بعد ذلك أن المهدية، مدينة تتنفس الموسيقى، واختفاؤها يربك المارة الذين تعوّدوا على الأنغام العالية. تتميز المدينة بعشق سكانها للموسيقى على اختلاف أنواعها، وتعتبر مسرحاً للاسطوانات المدمجة التي تباع بأسعار زهيدة. وبين مكتبة موسيقية وأخرى، تجد مكتبة تبيع الأعمال ذاتها. البيع ليس تجارة بقدر ما هو متعة بالنسبة الى الباعة، فغالبيتهم يقصدون الشاطئ للاستماع الى الموسيقى وشرب الشاي بالنعناع، ولا يبيعون الزبون الذي يجادل كثيراً في السعر، أو يقلق راحتهم. الباعة المتجولون بعربات صغيرة، هدفهم تحصيل قوتهم اليومي فقط، وبعد ذلك ينصرفون الى ملذاتهم الخاصة، وأهمها الاستماع الى الموسيقى بصوت عالٍ. واللافت في الأمر أن المدينة وكأن هناك بين باعتها اتفاقاً ضمنياً، اذ ما ان ينطفئ قرص الشمس، حتى يعمدون الى الاستماع الى الموسيقى الفولوكلورية والتقليدية مثل الغناوة التي يرجع أصلها الى أبناء العبيد الذين كانون يُجلبون الى المغرب من مناطق مختلفة جنوبي الصحراء خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر، والمواويل الأمازيغية والراي. في النهار، يستمع الجميع الى مختلف الانواع الموسيقية من العربية الى الكلاسيكية والروك والبوب روك والجاز والبلوز والدبكة التي تشتهر بها بلاد الشام. ويتخطى الأمر الاستماع، الى حضور فرق رقص بلباس تقليدي تجوب الشوارع وتحث الجماهير على المشاركة في الرقصات. يقول ادريس (25 سنة) إن الموسيقى باتت جزءاً من ثقافة الحياة في المهدية، على الشاطئ وفي المنازل، لا تتوقف الموسيقى إلا في حالات الوفاة والمناسبات الدينية والتي غالباً ما تعتمد أيضاً على بعض الايقاعات الموسيقية. ويضيف ادريس الذي يعمل في بيع الاسطوانات منذ نعومة أظافره: «كبرت والموسيقى ترافقني في كل تفاصيل حياتي اليومية، كنت أهرب من المدرسة لأتعلم العزف على آلات موسيقية كالغيتار، بيد أن الفقر والكلفة الباهظة للتعليم منعاني من الاستمرار في الدروس الخصوصية». في مدينة تتنفس الموسيقى، تشعر أنك خارج المكان، تغوص بذاتك الى أعماقها لتسمع صدى داخلياً، وتنصرف الى التفكير ومحاسبة الذات. هناك على شاطئ المحيط، حيث تمتزج أنغام البيتلز بصوت الموج الصاخب. تجلس على مهل على الرمال الطرية، لتنظر من البعيد الى مدينة ترقص وتغني ويلفها الفرح من بداية كورنيشها الى نهايته. ومن يدقق في اللهجة المحكية في المهدية، يلاحظ أنها ايقاعية تنبض أيضاً بالموسيقى.