عندما أسس الشيخ حسن البنا جماعة الإخوان المسلمين في مصر عام 1928 كان يهدف من إنشائها إلى العودة بالأمة إلى صحيح تعاليم الإسلام، وتربية المسلمين تربية إيمانية وسلوكية، عبر الفرد والبيت والمجتمع، بتقديم نموذج القدوة الحسنة، ولذلك كان من أعلامها كبار علماء الأزهر الشريف، من أمثال: البهي الخولي، ومتولي الشعراوي، ومحمد حسن الباقوري، ومحمد الغزالي، وعبد الودود شلبي، وسيد سابق، وحسن الشافعي، وغيرهم من الأعلام، الذين استحسنوا مبادئها القويمة، ورسالتها الأخلاقية النبيلة أيام حسن البنا. لكنَّ حال الجماعة انقلب رأساً على عقب بعد وفاة البنا، فقد اختلف المنهج، وتغيَّرت الطريقة والأهداف، فاستقال هؤلاء العلماء واحداً بعد الآخر! فقد سيطر التنظيمُ الخاص في أُخريات حياة البنا على مفاصل الجماعة، حتى أصبح البنا لا يملك سلطة اتخاذ القرار، وبات مجرد واجهةٍ فقط. في كتابه «من معالم الحق»، يقول محمد الغزالي: «إن الذين يحسبون أنفسهم جماعةَ المسلمين يرون مخالفة الأستاذ حسن الهضيبي ضرباً من مخالفة الله ورسوله، وطريقاً مُمَهِّدة إلى النار، وبئس القرار! وقد كنتُ أسيرُ مع زميلي الأستاذ سيد سابق قريباً من شُعبة المَنيَل، فمرَّ بنا اثنان من أولئك الشُّبّان المفتونين، وأَبَيا إلاَّ إسماعَنا رأيهم فينا، وهو أننا من أهل جهنم». وينتقد الغزالي الفهم الخاطئ للإسلام من قِبَل البعض، فيقول عن الإخوان: «إنني تذكرتُ بعد أيام هذا العداء المُر، والأوامر التي أوحتْ به، فعزَّ عليَّ أن يُلعَب بالإسلام وأبنائه بهذه الطريقة السمجة، وأن تتجدَّد سياسة الخوارج مرة أخرى، فيُلعَن أهلُ الإيمان ويُتْرَك أهلُ الطغيان! فمِن المُضحك أو المُبكي أن يخطب الجمعةَ عقب فَصْلِنا من المركز العام (للإخوان) مَن يؤكد أن الولاء للقيادة يُكَفِّر السيئات، وأن الخروج عن الجماعة يمحق الفضائل، وأن الذين نابذوا القيادة عادوا إلى الجاهلية الأُولى، لأنهم خلعوا البَيعة... ورُئِيَ الدكتور محمد يوسف موسى -أستاذ الشريعة الإسلامية بجامعة القاهرة- يخلُص بالخطيب جانباً، ليقول له: أيُّ إسلامٍ هذا؟ ومَن مِن علماء الأولين والآخرين أفتى بهذا اللغو؟ وكيف تُلبِسون الدين هذا الزيَّ المُنكَر». ويتهكم الشيخ الغزالي من قول واحدٍ من أقرب رجال المرشد (الهضيبي) له: «إن الإيمان بالقائد جزءٌ من الإيمان بالدعوة»، ويُعلِّق بمرارة: «وبمثل هذا الأسلوب رُسِمَ مجرى المعاملة بين مرشد الإخوان والجماعة، فلمَّا استغربناه وتأبَّينا عليه تعامله، مُخطئاً أو مُصيباً، غيرَ مُقرِّين هذه الهالة التي أضفاها الأغرارُ عليه، مَقَتَنا الرجلُ أشدَّ المقت، مَقَتَنا كما يمقتُ الكُفّارَ والفُّسّاق». وفي سيرته الذاتية التي سماها «ابن القرية والكُتّاب»، يقول الدكتور يوسف القرضاوي: «من الحوادث التي وقعت في تلك الفترة، وكان لها أثرٌ سيء على الإخوان: قتلُ القاضي أحمد الخازندار، قتله اثنان من شباب الإخوان المُنتمين إلى النظام الخاص، هما: محمود سعيد زينهم، وآخر نسيتُ اسمه، وقد قُبِض عليهما وسِيقا إلى المحاكمة، وحُكِم عليهما بالسجن المؤبَّد مع الأشغال الشاقّة. لم يكن للأستاذ حسن البنا المرشد العام عِلمٌ بهذه الحادثة، ولا أَذِن فيها، ولا أُخِذَ رأيه فيها، إنما الذي تولَّى كِبْرها وحمل تبعتها هو النظام الخاص ورئيسه عبد الرحمن السندي، الذي دبَّر العملية وخطَّط لها وأمر بتنفيذها». يقول القرضاوي: «لقد سمعتُ الأخ الكبير الأستاذ محمد فريد عبد الخالق -وكان رئيساً لقسم الطُّلاّب في ذلك الوقت، وكان من القريبين من الأستاذ البنا- يقول: «دخل على الأستاذ البنا، بعد نشر وقوع الحادثة، فوجده أشدَّ ما يكون غضباً وحنقاً، حتى إنه كان يشد شَعْره من شدة الغضب، وقال له: أرأيتَ ما فعل إخوانك يا فريد؟ أرأيتَ هذه الجريمة الحمقاء؟ إنِّي أبني وهم يهدمون، وأُصْلِح وهم يُفسِدون؟ ماذا وراء هذه الفعلة النكراء؟ أيُّ مصلحةٍ للدعوة في قتل قاضٍ؟ متى كان القضاةُ خصومنا؟ وكيف يفعلون هذا من دون أمرٍ مني؟ ومن المسؤول عن الجماعة: المرشد العام أمْ رئيس النظام الخاص؟ هؤلاء سيدمرون الدعوة»! إلى آخر ما قال الأستاذ (البنا) وفق رواية الأستاذ فريد، وقد سمعتُ منه هذه القصة أكثرَ من مرة». ويعترف القرضاوي بفداحة هذه الجريمة، وسلوك البعض من الإخوان المسلك الخاطئ، فيقول: «لقد كان هذا خطاً، بل خطيئة ارتكبها النظام الخاص، وهو الذي يتحمَّل وِزرها، وقد شعر الأستاذ البنا في الآونة الأخيرة بأن النظام (الخاص) بدأ يستقل بنفسه، ويتمرَّد على سلطانه، ويجعل من نفسه جماعةً داخل الجماعة، أو دولة داخل الدولة، بل يرى أن كلمته هي العليا، وهو مشكلة عويصة يبدو أن الأستاذ (البنا) بدأ يفكر في حلها، ويُسِر إلى بعض المقربين منه بخصوصها، وإن لمْ يهتدِ سبيلاً إلى حلها، أو لم يُمهله القَدَر حتى يجد طريقاً لعلاجها». وفي كتابه «الشيخ الغزالي كما عرفته» يقول القرضاوي: «بعد أن اختلف –الغزالي- مع مرشد الإخوان الثاني حسن الهضيبي؛ قال: إن ميدان العمل لله ورسوله أرحب من أن يحتكَّ فيه متنافسون، وأسمَى من أن يشتبك فيه مُتشاكسون، وقد كنتُ حريصاً على الصمت الجميل يوم عرفتُ أنِّي سأعملُ للإسلام وحدي، بيدَ أن أحداً من خَلْق الله اعترضني ليقول لي: إنْ تكلَّمتَ قُتِلْتَ، فكان هذا هو الحافز الفذ على أن أتكلَّم وأُطنب». ويعقِّب -القرضاوي- قائلاً: لقد كان للشيخ الغزالي رأيٌ في سياسة حسن الهضيبي، فنقدَ بعنفٍ هذه السياسة، وازداد عنفه حينما أعلن الهضيبي فَصْله من دعوة الإخوان، التي قضى فيها شبابه، ونَذَر لها عمره، ولم يكن يتصور أن يأتي يومٌ يُبْعَد فيه عن دارٍ كان أحدَ بُناتها، وحَمَلَة حِجارتها. وكان مما أهاج غضبَه واستثار غريزة الدفاع فيه، أنَّ بعض أُولي الهَوَس من الإخوان هدَّده وتحدّاه، كما حكى ذلك الشيخ في بعض كُتُبه». حكاية العقاد مع الإخوان! ومن قبل هذا وذاك، حين كانت أهداف جماعة الإخوان المسلمين دينية لم يختلف معها عباس محمود العقّاد، ولم يتعرَّض لها بسوءٍ، كما يقول سامح كريم في كتابه «عباس محمود العقاد الحاضر الغائب»: «إنَّ الذي أثار العقاد وجعله يتخذ منها موقفاً، هو استخدامها القتل والاغتيال، كوسيلة للوصول إلى أهدافٍ سياسية مُعيَّنة، والذي كانت نتيجته اغتيال الوطني الكبير محمود فهمي النقراشي عام 1948، رئيس وزراء مصر، ورئيس حزب السعديين بعد اغتيال رئيسه السابق أحمد ماهر، والاثنان من الوطنيين المشهود لهم بالمواقف الوطنية الجليلة. هذا إلى جانب أن العقاد كان يُكِنُّ مودةً خاصة للنقراشي؛ نظراً لمواقفه في ثورة 1919 من ناحية، ومن ناحيةٍ أخرى أن العقاد كصاحب رأيٍّ حر، كان يُبغِض أسلوب الإرهاب الفكري... ومن هنا كان موقفه من الإخوان». يقول العقاد في جريدة «الأساس» في 17 كانون الثاني (يناير) 1949: «أجمع المصريون على استنكار تلك الجرائم الوحشية التي يُقْدِم على ارتكابها أفراد جمعية (الإخوان المسلمين)، ولكن فريقاً من الذين بحثوا في أسرار تلك الجرائم يتوهَّمون أن جُناتها الأشرار يُساقون إليها بدافعٍ من الإيمان المُضلَّل، ويحسبون أن إدخال هذا الإيمان إلى عقولهم الملتوية يحتاج إلى قدرة نفسية، أو قوة من قبيل القوة المغناطيسية، وهذا هو الوهم الذي يفرض للمُجرمين شرفاً لا يرتفعون إليه، وهو شرف الإيمان، ولو كان إيماناً مُضللاً منحرفاً كل الانحراف عن مقاصد الأديان، وبخاصةٍ مقاصد الدين الإسلامي». ويرفض العقاد اغتيال النقراشي كوطني، ويربط بين جماعتهم وعِصابة (الخُط) بالصعيد، في تحريك طبيعة الشر والطَّمع والغرور، فيقول: «إن فقيد الوطن -النقراشي- رحمه الله قد أراح هذه البلاد من عصابات كثيرة، قبل هذه العصابة الإجرامية، ومنها عصابة (الخُط) المشهورة، التي كانت تعبث بالفتك والسلب والنهب في أوساط الصعيد، والخُط لم يدَّعِ لنفسه أنه إمام من أئمة الدين، ولم يدَّعِ له أحدٌ شيئاً من العلم، أو القدرة على التدجيل باسم العلم والدين، ومع هذا فقد استطاع ذلك المخلوق أن يجمع حوله أربعين أو خمسين رجلاً، يُجازفون بالحياة في سبيل طاعته... فهل كانوا مُحتاجين إلى إيمانٍ مُضلَّلٍ يسوقهم إلى المجازفة بالحياة، وعصيان الدولة، وإعلان الحرب على المجتمع كله، بغير نظرٍ إلى عواقب الأمور؟ كلا، لم تكن بهم حاجة إلى إيمانٍ قويمٍ، ولا إيمانٍ منحرفٍ، ولم تكن بهم حاجة إلى إيمانٍ قويّ، ولا إيمانٍ ضعيف، وكل ما احتاجوا إليه هو تحريك طبيعة الشر والطمع والغرور». محاولة اغتيال العقاد يستطرد سامح كريم قائلاً: «طبيعيٌّ أن يكون لهذا الموقف من العقاد ضد الإخوان ومرشدهم الشيخ حسن البنا رد فعل من الإخوان، حتى إنهم أنذروه، وهدَّدوه أكثر من مرة، ولكنه لم يأبه بتهديدهم، ولم يهتم لإنذاراتهم، حتى إنهم كانوا يُرسلون إليه خطاباتٍ متتالية يقولون فيها «قذفت القاذفة» يريدون قول: (أزِفَتِ الآزفة) مُهدِّدين إياه بالقتل إنْ لم يكفّ عن مهاجمة أساليبهم، ولكن العقاد لم يكف، ولم يصمت، لأنه رأى أن ما يقوله ويدافع عنه هو الحق. ووضعوا المتفجرات عند بيته، حتى يرتدع، ولكنه لم يرتدع، وأخيراً حكموا عليه بالموت، وكانت خطتهم في ذلك أن يتصلوا به في الليل، وكان التليفون بجوار النافذة، وعندما ردَّ العقاد أطلقوا عليه الرصاص، لإصابته في مقتل، ولكنْ نجاه الله من هذه المكيدة، وظلَّ اسمه في قائمتهم السوداء انتظاراً لإعدامه وقتله، بين لحظةٍ وأخرى، لا لشيءٍ إلاَّ لأنه اختلف معهم في الرأي». ويحكي الأديب محمد طاهر الجبلاوي هذه القصة بتفاصيلها في كتابه «مع العقاد في ظل العقيدة الوطنية» فيقول: «وقد وضع الإخوان المتفجرات عند بيت العقاد، وطلبه أحدهم في الليل في التليفون، وتليفون العقاد يقع إلى جوار نافذة زجاجية مواجهة للخَلاء، فلمَّا انتقل العقاد إلى حجرة التليفون، وأمسك بالسماعة، أُطْلِقتْ عليه رصاصة اخترقت زجاج النافذة، ولكنها لم تُصِبْه! ولم يُبلِّغ العقاد عن هذه الأحداث، ورأى من الخير كِتمانها، وعدم الاكتراث بها، ولكنَّ وزارة الداخلية نمتْ إليها الأخبارُ عن طريق غير مباشر، وضَبطتْ قوائم فيها أسماء بعض رجالات مصر، ومنها اسم العقاد، للقضاء على حياتهم، فأرسلتْ إلى العقاد حَرَساً لازمه أشهر عدة، بعد أن تبيَّن حقيقة ما يُدَبَّر له».