«بيكاسو - سيزان»، معرض مقارن آخر بالغ العناية، يثبت من جديد أن سياق تاريخ الفن الحديث يقوم على التواصل والتوارث وتراشح الخبرات والتأثيرات أكثر من الحركات المعزولة تحت اسم العبقرية الأحادية. يثبت المعرض أنه كما توالدت تجربة سيزان على ريادتها من صلب بوسّان فإن بحوث بيكاسو (التكعيبية بخاصة) تمثل استمراراً طبيعياً (يكاد يكون بيولوجياً) عن موروث لوحات سيزان. وعلى رغم أن بيكاسو نفسه يعترف بهذه الحقيقة مجيباً على سؤال إذا كان يعرف سيزان، بالقول: «كان بالنسبة لي المعلم الوحيد، فقد استهلكت سنوات كرستها لدراسته»، فإن بعض النقاد المتسرعين يصرّ على أن عبقرية بيكاسو كفيلة بتفوقه على تاريخ الفن عامة. يثبت المعرض العكس، ولكنّه على رغم أهميته لم يُعد هذه المرة في العاصمة، وإنما في أرض سيزان أي في «أكس إن بروفانس». لم يقتصر جهد بيكاسو على اقتناء عدد من لوحات سيزان، لوحات كان مهووساً فيها بتصوير جبل «سان فكتوار» الذي تعانقه هذه المنطقة الجنوبية، والتي ارتبط اسم سيزان بها، بل قرر بيكاسو عام 1959 أن يشتري قصراً قريباً من هذا الجبل (يدعى «فونفارغ»)، مصرحاً بأنه تملّك الجبل الأصلي وليس فقط المرسوم في اللوحات. عاش فيه سنتين فقط متفرغاً لدراسة مجموعة لوحات سيزان التي حفظها فيه، افتتح هذا القصر للجمهور بمناسبة المعرض وكذلك محترف سيزان، وأقيمت عشرة معارض موزعة في متاحف المدن المتوسطية في الشاطئ الفرنسي (الريفييرا) التي قضى فيها بيكاسو سنوات نشاطه الفني الأخير ودفن فيها، وذلك ابتداءً من أكس إن بروفانس وفالوريز وانتهاء بآنتيب وآفينيون وآرل وموجان. (ثلاثة معارض مقامة في الأولى) ومتفرعة عن محور المعرض المركزي في متحف أكس ان بروفانس (غراني). يستمر حتى نهاية أيلول (سبتمبر)، أما المعرض الرديف في المتحف نفسه بعنوان «تحولات بيكاسو» فهو مستمر حتى نهاية كانون الأول (ديسمبر). صدرت ستة كتب فنية بمناسبة هذا الحشد من المعارض. هي ربما الرحلة السياحية الفنية التي يقترحها موسم هذا الصيف لعشاق بيكاسو وشواطئ البحر الأبيض المتوسط الفرنسي. تحتوي جدران العرض في «بيكاسو - سيزان» على 114 لوحة، تعطي المشاهد فرصة للتأكد من تخمة ارتشاف بيكاسو لنسغ فكر سيزان، وعلى الأخص ما بين الأعوام 1908 - 1913. هي الفترة التي اكتملت فيها النظرية «التكعيبية» لدى كل من بيكاسو وبراك ودعيت «بالتكعيبية السيزانية». يتمركز تأثر بيكاسو من خلال مقولة سيزان «كل ما في الطبيعة يبتدأ من الأشكال الهندسية أو البنائية الأولى: الأسطوانة والمخروط والكرة». وهكذا تصوّر سيزان الشجرة أو الجبل يملكان عمارتهما المادية المستقلة عبر عواطفنا اتجاهها، هو ما نجد تأثيره خلال فترة تأسيس تيار «التكعيبيّة حيث يقول جورج براك (شريك بيكاسو) بأنه يحول الطبيعة الصامتة الى فراغ مادي، «أحس بأنني ألمس العناصر الجامدة أكثر مما أراها». لذلك أصبح دور الألوان ثانوياً يرتبط بالضوء وتحولاته، لأن تكتل العناصر كان يتم عن طريق الألوان الحجميّة مثل الرماديات والبنيات بفروعها، وازدادت مع بيكاسو حرية تمفصل العناصر لتدخل في مغامرة تدمير الأشكال وتشظيها قبل اعادة البناء في المرحلة المدعاة بالتحليلية، الى درجة أن أعمال بيكاسو ما بين عامي 1908 و1909 لا يمكن فصلها عن سيزان بما فيها استعارة الموضوعات نفسها مثل «مدخّن الغليون» و «المهرج (الآرلوكان)» وسواهما، وهي الحقيقة التي تكشف بسطوعها للمرة الأولى على الأرجح.