هل تحتاج روسيا إلى ستالين جديد كي تعيش؟ سؤال غريب تصدَّر الصفحة الأولى لجريدة «نوفايا غازيتا» الروسية، التي تكاد تكون الصحيفة المعارضة الوحيدة في البلاد. أتى ذلك في إطار انتقاد الصحيفة مثل باقي معارضي الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ما وصفته بأنه «محاولات إعادة روسيا عقدين إلى الوراء»، عبر فرض سيطرة «الحزب الواحد» على البلاد، وتشديد القبضة الأمنية وتسليم مقادير الأمور إلى نخبة سياسية واقتصادية تدور في فلك الكرملين، وأخيراً إعادة إحياء تقليد سوفياتي بتكريم المتفوقين ومنحهم ألقاب «بطولة». ولا شك في أنه يحلو للمعارضين الروس أن يعقدوا مقارنات كثيرة بين روسيا والدولة العظمى السابقة، ويتهمون الرئيس بأنه يعمل على إحياء أمجاد الامبراطورية السوفياتية في سياساته الداخلية والخارجية. لكن بوتين الذي يقول البعض إنه جمع سلطات لم يكن الزعماء السوفيات يحملون بها، رفض أكثر من مرة تلك الاتهامات ووصفها بأنها «فارغة». وأطل الرئيس الروسي أخيراً، بعد غيبة قصيرة بسبب مرض طارئ، ليقول في اجتماع مع ناشطين مؤيدين، إن مساعيه لإنشاء كيان اقتصادي وسياسي موحد في الفضاء السوفياتي السابق وجهود إعادة التسليح وتعزيز «الذراع العسكرية الطويلة لروسيا»، لا تخفي مساعي لإعادة أمجاد الامبراطورية الضائعة، بل هو مجرد تطلع لتعزيز قدرات روسيا التنافسية في المجالين الاقتصادي والتجاري. تلك الكلمات كانت رداً على انتقادات غربية وصلت إلى حد إعلان وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون أن بلادها تعارض إعادة بناء «الكيان السوفياتي» عبر تشكيل اتحادات جمركية أو تجارية أو عسكرية، وأشارت إلى أن واشنطن «تحاول إيجاد طريقة فعالة لإعاقة هذه العملية». لكن ما يقلق الغرب حيال سياسيات بوتين «الأوراسية» يبدو بعيداً من هموم المعارضة الروسية، التي تشكو من تكريس سياسات داخلية تعيد إلى الأذهان تقاليد كانت مستخدمة خلال العهد السوفياتي. ويتحدث البعض عن تشابه في أساليب ملاحقة المعارضين و «تلفيق» الاتهامات» ضدهم، وعن نجاح بوتين في إعادة بناء هرم السلطة بشكل يركز السلطات في يد مركز واحد ويمنع أي محاولة للاعتراض على قرارات الكرملين. تكريم «الأبطال» لكن الأهم من ذلك كله، كما ظهر أخيراً، التوجه نحو إحياء تقاليد كاد قطاع كبير من الروس أن ينسوها بعد مرور عشرين عاماً على انهيار الدولة العظمى، إذ جاء حديث بوتين أخيراً عن ضرورة إحياء تقليد سوفياتي استخدم في الماضي للحض على الإخلاص في العمل عبر منح جوائز ل «أبطال الإنتاج» ليلفت الأنظار إلى ممارسات كثيرة تسللت إلى حياة المواطن الروسي من العهد القديم. وبرر الرئيس قرار إعادة الاعتبار إلى لقب «بطل الإنتاج» ومنح مكافآت للمتفانين في عملهم بأنه سيساهم في تطوير البلاد وتغليب النوع على الكم عند المواطن. وفور الحديث عن ذلك، انفلت العقال لمبادرات من النوع ذاته، ومثلاً تدرس إدارة المرور حالياً إعادة العمل بقوانين العقوبات التراكمية السوفياتية ضد المخالفين لقوانين السير، ودافع مسؤولون عن القانون السوفياتي بأنه كان فعالاً وروسيا تحتاجه حالياً بشدة. أيضاً يدور نقاش عن مراجعة بعض أنظمة التعليم والإفادة من التجربة السوفياتية في هذا المجال. لكن اللافت أكثر أن يسرب بعضهم نقاشات تجري في كواليس فريق الرئيس في الكرملين حول فكرة حل مجلس الدوما وإعادة إحياء «مجلس السوفيات الأعلى». ومع ملاحظة وتيرة أحلام العودة إلى الماضي الجميل على الصعيد الداخلي، لا يتجاهل كثيرون أن روسيا أطلقت برنامج إعادة تعزيز القدرات العسكرية الضخم الذي سيكلف موازنتها نحو 200 بليون دولار، الذي يصفه البعض بأنه يعيد أجواء سباق التسلح إلى العالم. كما يشير خبراء إلى أن ميل الكرملين الواضح نحو التشدد حيال ملفات السياسة الخارجية يصب في الاتجاه ذاته، وبين أهدافه تحسين صورة بوتين داخلياً بعدما هزتها نشاطات المعارضة. حنين إلى الماضي لكن، لا يبدو الكرملين وحده تواقاً إلى إعادة إنتاج التجربة السوفياتية، إذ تشير استطلاعات إلى أنه نجح عبر التعبئة الإعلامية القوية، في إحداث تغيير ملحوظ في المزاج الشعبي يلبي أغراض المرحلة، ويكفي أن استطلاعاً أجراه مركز «ليفادا» المرموق لدراسة الرأي العام منتصف الشهر الماضي خرج بنتائج مثيرة لم يكن ممكناً تصورها في روسيا في تسعينات القرن الماضي: 66 في المئة من الروس يعارضون أي شعار يرفع ضد التجربة السوفياتية، 62 في المئة منهم ضد «العملاء الأجانب»، 61 يرون في الحلف الأطلسي عدواً أساسياً، و51 في المئة يعتبرون الرأسمالية عدواً، وأخيراً يرى 46 في المئة من الروس أن الولاياتالمتحدة لا يمكن أن تكون صديقة لبلادهم.