ماذا فعلت «ناشيونال جيوغرافيك» بمشاهدي الشاشة الصغيرة؟ لا شك في أن كثافة المشاهدة التي تحظى بها هذه الفضائية وبرامجها على اختلافها، تحمل كثيراً من المعاني والأسباب، لكن أبرزها الرَغبة في العثور على مناخ مختلف بعيداً عن أخبار السياسة العربية والدولية الشائكة والصعبة هذه الأيام. من البديهي أننا كبشر نحنُّ للطبيعة ونحمل رغبات عميقة في العودة إليها بما هي عودة للبساطة، لكننا فوق ذلك نرغب في مشاهدة «غير منحازة»، بعيدة عن «الرأي والرأي الآخر». وذلك ممكن – إلى حد بعيد – في التأمل في لوحة الحياة الطبيعية بمختلف كائناتها الحيوانية، كما أيضاً في تلك البرامج التي تتناول حياة البشر ذاتهم في صورها وحالاتها الغريبة التي اعتدنا أن يبتعد عنها الإعلام المرئي إلا في عجالات لا تلبي رغبة المعرفة أو المتعة. بين الفضائيات الناطقة بالعربية التي يصعب إحصاؤها، تبدو «ناشيونال جيوغرافيك» بهوية لعلَها الأكثر تميُزاً وتماسكاً ودلالة على مضامينها ومحتوى ما تقدمه لمشاهديها. والمسألة تتجاوز هذا كلّه أيضاً لتصل حالة «الإتقان»، أي تقديم برامج مصوَرة تحمل المعلومة الحقيقية، الواقعية والقادمة من البحث العلمي «الميداني» إلى جانب متعة الإعداد الفني الحداثي الراقي الذي يعرف أصحابه أن التلفزيون هو قبل أي اعتبار آخر صورة جميلة يسعى نحوها المشاهدون على اختلاف أذواقهم وطبائعهم. فهم يتسمَرون أمام الشاشة الصغيرة وبهم رغبة رؤية المعلومة في شكل مختلف عن ذلك الذي تقدمه الكتب والصحف الورقية وغيرها. أحبَ مشاهدو التلفزيون في العالم رؤية الحيوانات البرّية في أماكن عيشها الطبيعية، وهم اليوم يحبُون فوق ذلك رؤية تفاصيل ذلك العيش، وملاحقة تلك التفاصيل على نحو علمي يتجاوز العابر من المعرفة إلى المؤسس على التجربة والخبرة العلمية. هنا بالذات «يطمئن» المشاهد إلى أن ما يراه أمامه على الشاشة الصغيرة حياة حقيقية وإلى أن هذه الحياة المصورة فضائياً، تحمل فوق ذلك مصداقية يصعب العثور عليها في النشرات الإخبارية السياسية التي باتت لا تحمل لهذا المشاهد إلا كل ما هو أليم ويدعو للكآبة والحزن. ولنقل هنا من دون أن يبدو علينا أننا نجازف بأن هذا اللون من البرامج التلفزيونية الذي تقدمة قناة «ناشيونال جيوغرافيك» وربما أيضاً عدد قليل جداً من قنوات أخرى تسير على دروبها غير الممهدة تماماً، يمنحه راحة خاصة يمكن اعتبارها نوعاً من «الإجازة» من كل تلك الوقائع الدامية وما يتصل بها. هي الطبيعة ببشرها وحيواناتها نراها تتحرَك أمامنا فنثابر على المشاهدة لأننا نطمئن للجمالية والصدق معاً.