ثمة مقارنة غنية بالعبر. وبفارق شهر، وجد اليمين الفرنسي واليمين الأميركي نفسيهما عاريين. أخفق الجمهوريون في الولاياتالمتحدة في استعادة البيت الأبيض وفقدوا عدداً من المقاعد في الكونغرس لأن رسالتهم الوحيدة باتت رفض كل تغيير. وانتهى الأمر بميت رومني إلى تسليم كل شيء إلى الأجنحة الأشد محافظة في حزبه لينال التسمية (كمرشح للحزب الجمهوري)، ما جعله يقدم صورة عن أميركا أحادية اللون تعاني ثلاثة مصادر للخوف. وترى أميركا تلك في التضامن الاجتماعي وإعادة توزيع الضريبة وسيلتين لنهب الطبقات المتوسطة البيضاء لمصلحة ذوي الأصول الأفريقية الأكثر حرماناً، لذلك تخشى عودة «الدولة» التي وسمتها بتعميم التغطية الطبية وإرادة باراك أوباما فرض ضرائب أثقل على الشريحة الأغنى. وتخشى أميركا الهجرة التي تتشكل قطعها الكبرى، هناك، من الكاثوليكيين الآتين من أميركا اللاتينية ما يمنحهم القدرة على منافسة «الواسب» (الأحرف الأولى بالإنكليزية من) البيض الأنغلو-ساكسون البروتستانت، وتحولهم إلى مجموعة ضمن مجموعات أخرى وتهدد بجعلهم أقلية. وتخشى أميركا تغير القيم التقليدية، مثل زواج المثليين والحق في الإجهاض، لأن ذلك يؤدي في نظر المحافظين إلى نهاية الهيمنة الذكورية ونهاية نظام اجتماعي مُطمئن لأنه نظام معروف. أدرك رونالد ريغان كيف يجعل أميركا الرجعية هذه تظهر بإلغائه الضغط الضريبي المرتفع على الطبقات المتوسطة وبمد اليد إلى الأصوليين البروتستانت الذين ظلوا حتى ذلك الحين في منأى عن السياسة التي لم يجدوا أنفسهم بها، لا في اليمين ولا في اليسار. بذلك تودد إلى الناخبين الديموقراطيين وهمّش الجناح المعتدل في الحزب الجمهوري في آن، وشكل ائتلافاً جديداً أتاح له ضمان نجاح «الثورة المحافظة». وشن هجوماً اتخذ سريعاً بُعداً عالمياً، على «دولة الرعاية» والمكاسب الاجتماعية التي تحققت بعد الحرب العالمية الثانية. وعلى رغم ما فيها من عناصر كريهة، كانت هذه ثورة نظمها ريغان بالتعاون مع (رئيسة الوزراء البريطانية السابقة مارغريت) ثاتشر. وقد غيّرت العالم وعززت قوى اليمين بجعلها الأفكار الليبرالية مهيمنة طوال العقود الثلاثة الماضية. بيد أن ائتلاف الثمانينات هذا لم يعد اللجام الذي كان بيد الجمهوريين. لا يُذكّر رفض تطور التقاليد بصوت الماضي فحسب، بل يؤدي أيضاً إلى الخسارة، لأن النساء استحوذن على حقوق وعلى حيز عام ولسن مستعدات للتخلي عنهما... في موازاة ذلك، ذاقت الطبقات الوسطى مجدداً طعم «الدولة» ودورها الاقتصادي لأن هذا أتاح إنقاذ أميركا من الكارثة التي دفعتها إليها الأفكار النيوليبرالية الجامدة، المترنحة الآن. ولم تعد الثورة المحافظة- كما رأينا في السادس من تشرين الثاني (نوفمبر)- سوى آلة لخسارة كل اليمين الأميركي وبمحاولته استلهام التجربة تلك، انهار اليمين الفرنسي. ماذا ستكون عليه «الساركوزية» إذا؟ كانت في بداياتها إعلاناً عن «قطع» مع الدولتية وعن النزعة البونابرتية لليمين الديغولي وتعبيراً عن إرادة استيراد الليبرالية من وراء المحيط الأطلسي وأمركة المجتمع الفرنسي. وأحب نيكولا ساركوزي أن يوصف ب «ساركو الأميركي». أعجب ذلك أوساط الأعمال والطرف الليبرالي لليسار وأكثرية اليمين الذي لم يلتحق بالديغولية إلا للضرورة. وبإضافة الطاقة، كانت تلك صيغة ناجحة، لكن لم يستغرق الأمر أكثر من 18 شهراً من انهيار (بورصة) وول ستريت والهزيمة الأيديولوجية لليبرالية حتى تحول هذا الطموح إلى عدم. وخسرت الساركوزية المعركة منذ خريف 2008 لأنها عرّفت نفسها عبر أيديولوجية منهكة ولم يبق أمامها منذ غير الدفاع عن الهوية الوطنية، كورقة رابحة، وغير ناخبي «الجبهة الوطنية» كعكاز. كان خطاب غرينوبل (الذي ألقاه ساركوزي) ثم الحملة شديدة اليمينية، بلا فائدة مثل حملة رومني. ولم يخسر ساركوزي فقط، بل ترك خلفه يميناً منقسماً إلى حد لم يبلغه الجمهوريون. وفي فرنسا مثلما في الولاياتالمتحدة، باتت قوى اليمين مسيطراً عليها من الشرائح الرجعية والمذعورة من الهجرة ومن تبدل التقاليد. وبات اليسار متمركزاً في الوسط إلى درجة لم يعد في الوسع التمييز بينه وبين المستقلين من جهة من الأطلسي، وبين الوسطيين من الجهة الثانية. تناقص حيز القوى اليمينية في حين فُتِحت طرق عريضة أمام اليسار وإصلاحاته. * صحافي، عن «ليبراسيون» الفرنسية، 27/11/2012، إعداد حسام عيتاني