جمعتني بالدكتور سعد البازعي حوارات جميلة قائمة على الاحترام المتبادل بيننا عبر برنامج التواصل الاجتماعي(تويتر) شجعتني للعودة الى الوراء قليلا لاسترجاع أهم المضامين الفكرية الموزعة في كتبه ومقالاته البحثية الكثيرة. وحين يفكر إنسان ينقصه الإلمام بتفاصيل المنهجية البحثية مثلي في الكتابة عن باحث كالدكتور سعد يجد صعوبة في تحليل المنجز الفكري المتعدد تحليلا علميا محكما فيكتفي ببعض المقالات النقدية كنوع من رد الجميل لما قدمه لي من دراسات علمية كثيرة استفدت منها. ولعل نظرة سريعة لتلك الابحاث والمشاريع الفكرية المنجزة من قبل الدكتور سعد كافية لمد القارىء بالوسائل الضرورية لتحديد نقطة الارتكاز التي تتكىء عليها تلك المشاريع والتي انشدّ إليها الدكتور في رحلته البحثية الطويلة متخذا من المنهج الاستقرائي مرشدا له في مقاربته للاشكاليات الاكثر استفزازا وتصادما في المشهد الثقافي العالمي وأعني بها الخصوصية الحضارية / الثقافية من جهة، واليهود كمكون ثقافي استثمر موروثه الديني/ العقلاني في رسم الملامح الحضارية للغرب المعاصر من جهة أخرى. استحوذت هاتان الفكرتان السابقتان على حيز كبير من الجهد البحثي الذي اضطلع به الدكتور إيمانا منه بأهميتهما العلمية وحاجة القارىء العربي لمزيد من الاستيضاح لهما. ففي عام 1997م صدر بحث للدكتور في مجلة فصول الثقافية المصرية (المجلد الثالث عشر، العدد الثالث) بعنوان (تقاطعات الطيور، أزمة الحضارة بين ييتس والحكيم). تطرق فيه - معتمدا على المنهج المقارني الاستدلالي - إلى المأزق النفسي التي تعيشه ذاتان متناقضتان جغرافيا ودينيا وثقافيا في مقاربتهما لاشكال تمظهر الوجود الغربي الحضاري المؤَسَس على مركزية فلسفية علمية اشتغلت على استيلاد نماذج لا مركزية / هامشية تكون ملحقة بها تشكل في لحظة من اللحظات مرآة للغرب يرى من خلالها قوته الآخذة في الاتساع، بينما الشق المتعلق باليهود كرافد فعّال في الحضارة الغربية خصص له الدكتور كتابا قيّما تحت اسم (المكون اليهودي في الحضارة الغربية)، إذ برزت إحدى تجلياته وهي ارتفاع منسوب ثقة الدكتور في نفسه التي فتحت له فضاء واسعا لرفضه التسليم المطلق ببعض النتائج التي توصل إليها المفكر الدكتور عبدالوهاب المسيري رحمه الله تعالى ذات الصلة بالقضايا الفكرية اليهودية. ومن الظواهر الثقافية الملفتة للنظر هو تزامن صدور بحثين عن الشاعر الإيرلندي ييتس في عام 1997م احدهما للدكتور سعد كما ذكرت سابقا والآخر ضمن كتاب الثقافة الإمبريالية للمفكر إدوارد سعيد الذي ترجمه كمال أبوديب وهذا يحرك في القارىء رغبة في الحفر المعرفي لكي يمسك بسر انجذاب هذين المفكرَين لهذا الشاعر والصورة التي شكلها ادبه الغزير في ذهنيتهما رغم اختلاف منهجية تعاطيهما مع ذلك الأدب. اتخذ الدكتور سعد من الشاعر الايرلندي ييتس نموذجا لدراسة الخصوصية الثقافية كون حياته زاخرة بالعطاء الأدبي المتنوع ما جعله أحد أبرز الشعراء في أوروبا إضافة إلى كونه داخلا ضمن التخصص الاكاديمي للدكتور، لذا يستحسن التركيز على تحليل مقاربته لهذا الشاعر وصولا لتركيب صور الهوية الثقافية ونوعها التي استنتجها من أدب ييتس واستدعاء تلك الهويات لايديولوجية تبريرية تارة وتعليلية تارة أخرى. فرادة صور الهوية وتنوعها التي يقدمها ييتس في إبداعاته شجعت الدكتور سعد أن يخصص له بحثين آخرين في كتابه (مقاربات الآخر) وهذا الكتاب نفسه يحمل دلالة صريحة في معنى المقصود بالآخر والتي اشتقها من قول الشاعر وليم بليك جاء ضمن سياق الكتاب (لا تقدّم دون تضاد). فتجليات الآخر التي رام الدكتور سعد مقاربتها في كتابه هي صورة الآخر في مرآة الذات وصورة الذات في مرآة الآخر استحضر جدلياتها البسيطة والمركبة عبر الاشتغال المعرفي المعمق لنخبة من المفكرين والأدباء مكنته من بلورة صور معيارية للهوية تأبى التعامل معها كمعطى ثابت عصي على تغيرات التاريخ والمؤثرات الصعبة التي يفرضها الآخر عليها. بالعودة إلى بحث الدكتور المعنون بتقاطعات الطيور المنشور في مجلة فصول نجد أن رواية (الطائر الأرقط) للشاعر ييتس شكلت المخزون المعرفي الذي غَرفَ منه سمات الخصوصية الثقافية لذات الشاعر المأزومة قبالة الآخر وفق راهنية الدكتور على أثر المروث التوراتي الديني/ العقلاني في صوغ ملامح الهوية الممزقة والضائعة عبر الإشارة إلى رمزية (الطائر الأرقط) كما في (سفر إرميا)، هذه الرمزية منحت الدكتور استنتاجية استدلالية على شعور ييتس بتأزم الحضارة الغربية المادية وانحدارها نحو الهاوية.بانكشاف مأزومية الحضارة الغربية المادية اللا أخلاقية للشاعر تتشكل أولى محددات هويته الإيرلندية الأصلانية الخاصة باعتبارها في المسار الضدي للهوية الانجليزية الساعية إلى تحطيمها بأكثر الوسائل وحشية وهو الاحتلال المبكر للجمهورية الايرلندية (بلد الشاعر ييتس) والشروع في تغيير طبيعتها الثقافية والجغرافية والمذهبية الأمر الذي جعل منه شاعرا مقاوما للاستعمار البريطاني متكئا على قوميته السائرة باتجاه التطرف كرد فعل لفقدان بلده استقلالها مما سمح لهويته أن تتشظى وتتقبل الفلسفة الفاشستية كجسر يحمل آمال الشاعر للخلاص من الاحتلال البريطاني كما ذكر ذلك المفكر إدوارد سعيد في كتابه الثقافة والامبريالية. التأمل في مرتكزات هوية الشاعر الأخرى أبان لنا أن الدكتور سعد استفرغ جهده في تحليله لرواية الطائر الارقط للمطابقة بين الشاعر ييتس وبطل الرواية مايكل لاستجلاء معالم الأزمات التي انبنت عليها صور الخصوصية الهوياتية للشاعر، فبالنظر إلى سرديات الخطاب الروائي نجد أزمتين حادتين عصفت ببطل الرواية مايكل (ييتس) :أزمة روحية، والأخرى عاطفية، نبعت الأزمة الروحية من كون مايكل شابا مثقفا عجز عن تقبل منظومة العقائد المسيحية التقليدية كاشفا بذلك عن حالة إغترابية ولّدت لديه رغبة قوية في البحث عن بديل حين اختار التوجه الروحاني الغنوصي ذا الابعاد الطقوسية السرية متذكرين رحلته إلى بيزنطة أو علاقته بليون الإفريقي حيث السحر العرفاني الشرقي يستحوذ على قلب وعقل ييتس ويعيد له توازن ذاته المفقود جراء صدمتة من تلاشي موروثه القومي بفعل معاول الاحتلال الانجليزي اللا اخلاقي لبلاده كما جاء في كتاب مقاربات الآخر كملتقى للذات بذات أخرى تجسيدا لمبادىء الفلسفة الرومانتيكية كما صاغها هيجل التي تعتبر حركة التاريخ نوعا من صراع قوى متضادة. فبتأثير من حكاية ألف ليلة وليلة وفائض الإحساس بأهمية اللغة يعتبر ييتس العودة إلى الشرق عودة إلى الجذور حيث الامتزاج بالموروث الشعبي العربي والتركي والفارسي والهندي تمهيدا لاستعادة العلاقة مع الطبيعة وموروثاتها الانسانية البدائية. إحدى الإشكاليات التي تعرضها لها الناقد جورج طرابيشي في كتابه الروائي وبطله هي المطابقة بين الروائي وبطله إذ يرى أن التطابق يُعد أمرا مستحيلا لاعتبارات فنية وتحليلية نفسية، لذا نلحظ الدكتور سعد يتدارك الأمر في بحثه في مجلة فصول ويستعين بمذكرات الشاعر ييتس ومصفوفة من قصائده الأخر كقصيدة (الذات تحكم الآخر) لدعم استنتاجاته المشتقة من الرواية كرغبة في العبور بنجاح لتركيب صورة هوية الشاعر ييتس الخاصة كما تجلى ذلك في إبداعاته. يتعامل الدكتور سعد مع الهوية الثقافية الخاصة كوجود عرضي نسبي لا مطلق، متحرك لا ثابت، دنيوي لا مقدس، لا فضاء جغرافي أو ديني أو ثقافي يحدها، يظل الآخر شرطا لديمومتها عبر مساءلته ومكاشفته الدائمة لها حينا واستفزازها وصدمتها حينا آخر، إنه (الآخر) بمثابة المرآة الحقيقية للذات لإدراك قوتها أو عجزها الروحي والعلمي والاقتصادي والعسكري والسياسي، وبالتالي يحفز (الأنا) كي تدرك ذاتها الحقيقية لا الوهمية التي صنعتها الايديولوجيا وألبستها لباس المقدس. كل ذلك جسدته حفريات المعرفة التي نهض بها الدكتور سعد بمنهجية تحليلية بنائية لمقاربة أكثر حيوية للشاعر الايرلندي العظيم وليم ييتس. للتواصل عبر تويترAMEENM44