لطالما كرّر المفكّر الألماني كارل ماركس اعتقاده بأن «الإنسانيّة لا تطرح على نفسها سوى الأسئلة التي تستطيع الإجابة عنها»، وهو ما ينسجم مع نظرته فلسفيّاً للوعي الإنساني. لكن هناك بُعداً آخر للمسألة، إذ يبدو أن البشرية تطرح على نفسها، عبر بعض نخبها المتقدّمة، أسئلة ربما لا تكون جاهزة لإجابة عنها. وفي تلك الأحوال، تسير الأسئلة الصعبة بسرعة لتندرج تحت مسمّى «العلم»، وهو أصلاً يحمل كثيراً من الوعود التي لا يستطيع تحقيقها. ومنذ بعض الوقت، هناك محاولة لإسباغ صفة «العلمية» على ما يسمّونه «التخاطر عن بعد» («تليباثي» telepathy)، ويقصدون به وفقاً لتعريفاتهم، نقل أفكار ومشاعر وأحاسيس وتخيلات ذهنيّة بين الأفراد، من دون الحاجة إلى كلام ولا كتابة ولا إشارة. وفي «التخاطر»، يفترض أن يجري التخاطب عقلياً أو فكرياً من مسافات بعيدة. ثمة من يحشد أمثلة وشواهد على «التخاطر». ومع الإقرار باستحالة التحقّق من ذلك الشأن، يأتي من يضعه في باب «الظواهر غير المألوفة» أو «الخارقة»، على غرار الكلام عن «الحاسة السادسة» والأدبيات المنتشرة حولها. وهنالك من يلحق «التخاطر» بما يسمّى «بارابسيكولوجي» Parapsychology بهدف الاستفادة من الصيت العلمي لعلم النفس، مع الإشارة إلى أن مفهوم ال «باراسايكولوجي» ليس موضع إجماع علمي إطلاقاً. وثمة نوع يشدّد على وجوب التمييز بين «العقل» وما يحيطه من أفكار ومنطق وحجج وبراهين، وبين «الدماغ» ومناطقه العصبية وما يدور فيه من نشاط، ربما يكون زائداً أحياناً أو مُفرِطاً، ما يشكّل طاقة يمكن أن تصدر عنها إشارات أو ذبذبات. ضمن هذا السيّاق، تناقلت وسائل الإعلام قبل أيام قليلة، بفرح غامر، خبراً لا يخلو من صلة ب «التخاطر». ويتناول الخبر إعلان فريق بحثي من جامعات برشلونة (إسبانيا) وستراسبورغ (فرنسا) وهارفرد (أميركا)، نجاح تجربة تواصل عقلي عبر الإنترنت، سيكون لها أبعاد كبيرة على تقنيات التواصل والاتصال. في تلك التجربة، استخدم الإنترنت في نقل رسالة على هيئة موجة كهربائية يفترض أنها انتقلت عبر الإنترنت بين أشخاص فصلتهم آلاف الكيلومترات، إذ أرسل باحثان كان أحدهما في فرنسا والآخر في الهند، ما يفترض أنه كان فكرة على هيئة موجة كهربائية صادرة من الدماغ، إلى 3 باحثين في فرنسا. والطريف هو تبني الصحف العربية للصيّغة التي وضعتها وكالات الأنباء ناشرة الخبر، من دون أدنى تحفّظ على مضمونه. فلا يكفي أن يصدر «الخبر» عن مختبر أو علماء أو جهة بحثية حتى يكون صادقاً (لا داعي للتذكير بالتقارير المتناقضة التي تناولت فوائد الشاي والقهوة والمموّلة من الشركات، والتقارير عن التدخين). كذلك لم يقدّم الخبر بوصفه حالاً ربما تكون فريدة أو محض مصادفة، بل وُصِفَ بأنّه يفتح آفاقاً تساعد في تطوير عالم المعلومات والاتصال والتحكم من بُعد. إذن، هناك مشكلة أيضاً في محاولة التعميم. وبغض النظر عن الهالة التي ترافق استخدام الحاسوب، فإنه مجرد آلة أراد بعضهم استعمالها في توسيع ذكاء البشر. ثمة مسألتان بسيطتان جديرتان بالنظر في هذا الشأن. اولاً، لا يوجد تفكير من دون عمليات عقلية منتجة للمعنى، يجري التعبير عنها بالألفاظ، ما يعني أنها تحصل عبر اللغة. ربما يكون التفكير أسبق من اللغة، وسببّاً رئيسياً في ابتداعها من أجل توصيل الأفكار، لكن لا فكر من غير لغة. وتذكيراً، جهد المنطق الرمزي الحديث (المعتمد على معادلات الرياضيات)، في التخلّص من العبارات التي يرتكز إليها «المنطق الصوريّ» (أو الأرسطي)، مع استبدال الكلمات بإشارات في ما سمي «اللغة الإشارية». لكن اللغة بأي صورة كانت، بقيت أساساً في عملية الاتصال والفهم، على غرار ما تبرهن عليه لغة الصمّ البُكم. ثانياً، ربما تنتج عمليات الدماغ إشارات يمكن لأجهزة إلكترونيّة حسّاسة أن تلتقطها وترسمها، لكنها تبقى بعيدة تماماً من التعبير عن «الفكر» أو «المعنى»، بل إنها تشير إلى نشاطه الحركي فحسب، على غرار ما يحصل في رصد نشاط القلب كهربائيّاً. وما يجب التدقيق فيه هو سمة «العلمية» التي ترافق أي عمل بحثي، ولا أعني معقولية أو منطقيّة هذا الاختبار أو غيره (من دون الدخول في تفاصيل إجرائه)، إذ كما كان يقول الفيلسوف النمسوي لودفيغ فتغنشتاين «ما هو ممكن منطقياً ربما يكون غير ممكن واقعياً».