لا يكاد الشعراء أو الروائيون يعلنون توقفهم عن الكتابة حتى يتراجعوا عن قرارهم. هؤلاء، مثلهم مثل سائر الكتّاب المبدعين، ما عاد قراؤهم يصدقونهم في مثل هذه المواقف. ولعلهم هم أصلاً لا يصدقون أنفسهم عندما يعلنون العزوف عن الكتابة، لأنهم يكونون عادة في حال من الشك في هذا الشأن المصيري. لا يمكن شاعراً أو روائياً أن يهجر قلمه وأوراقه (لئلا أقول الكومبيوتر وفق لغة الراهن) بسهولة، كما يحلو لبعضهم أن يتصور. يكتشف الكاتب أنّ حياته لا معنى لها خارج هذا «الإطار» الذي طويلاً ما عاش داخله. لا جدوى لحياته وربما لوجوده بعيداً من أوراقه وقلمه أو شاشته الفضية. الكتابة في نظره ليست حاجة فقط، إنها عادة أيضاً، عادة من دم ولحم وعصب. إنها طريقة وجود وعيش وتنفس. طريقة في مواجهة الحياة والموت والسأم الداخلي والفراغ. الكتابة هي قدر أيضاً يصنع الكاتب بمقدار ما يصنعه الكاتب بنفسه. قضية الكتابة أو الأحرى قضية التوقف عن الكتابة، أعادها إلى الواجهة عالمياً الروائي الأميركي الكبير فيليب روث عندما أعلن أخيراً عزمه على هجر الكتابة نهائياً، بعد إنجازه نحو ثلاثين رواية جعلته في طليعة الحركة الروائية الأميركية والعالمية. في الثمانين من عمره شعر هذا الروائي بأنه لم يعد قادراً على الكتابة جسدياً أو فيزيقياً وليس فكرياً، كما صرح لصحيفة «نيويورك تايمز» قبل أيام. وهو حسم هذا الأمر بعد تردّد، متأنياً، كما أشار، بغية أن يصدقه قراؤه فلا يظنون أنّ في قراره «مناورة» أو فخاً... وتحدث عن مكابدته لحظة الكتابة، وما قبلها وبعدها، وعن العناء الذي يعانيه و «الكبت» الذي يعتريه آنذاك، وفق ما عبّر. ولئن بدا روث صادقاً في كلامه، فالقراء لا بدّ أن يشكوا منتظرين عودته عن قراره. في الثمانينات أعلن الشاعر العراقي بلند الحيدري توقفه عن كتابة الشعر، ولكن لم يمضِ عام حتى فاجأ القراء والصحافة التي كانت رحبت بقراره، بديوان جديد لم يكن في منزلة أعماله السابقة. وقبل عام أعلن الشاعر أدونيس اعتزامه هجر الشعر وليس الكتابة، لكنه سرعان ما أصدر قصيدته الطويلة «كونشيرتو القدس»، وهو ما زال يواظب على كتابة الشعر متجاهلاً الوعد الذي قطعه على نفسه. لا يقدر الشاعر أن يلجأ إلى الصمت ما دام قادراً على الكتابة. لا يقدر أن يصبح بين ليلة وأخرى قارئاً أو شاهداً صامتاً، ما دام حيّاً، الدم يجري في عروقه والكلمات تغريه والصفحة البيضاء تناديه. لا يمكنه أن يبقى على هامش الحياة التي لم تعن له يوماً إلّا الكتابة والكتابة... قد يدرك بعض الأدباء أنّ ما يكتبونه في خريف العمر ليس سوى استعادة أو تكرار لما كتبوه سابقاً، وأنه دون مقامهم الإبداعي السابق، وأنه يشكو من الهزال والضعف، لكنهم على رغم إدراكهم هذا يصرون على الكتابة من غير هوادة. وقد لا يبالون بما يوجّه إليهم من نقد وعتب ولوم، وبما يؤخذ عليهم من مثالب وهنات، فهم على يقين أنّ القراء لا يتابعونهم كما يجب ولا يولونهم الانتباه الكافي. وكم أساء هؤلاء إلى أنفسهم أولاً وإلى قرائهم وإلى صورتهم الإبداعية، نتيجة إصرارهم على الكتابة وعدم إصغائهم إلى رأي الآخرين. هؤلاء أساؤوا أيضاً إلى الذائقة الأدبية والذاكرة من غير أن يدروا. إنهم يريدون أن يكتبوا وإن كان الثمن باهظاً، ولعلهم يظنون أن هذه الكتابات لن تتمكن من الإساءة إلى أعمالهم الكبيرة لأنها ستظل على هامشها. هنا قد يخطر في البال الشاعر نزار قباني أو محمد الماغوط اللذان لم يعيا في مرحلتهما الأخيرة ماذا يكتبان وكيف يكتبان ولمن. وإذا كان لقرائهما الأوفياء أن يغفروا لهما مثل هذه الهفوات الكبيرة، فالتاريخ لن يسامحهما على ما ارتكبا من «آثام» في حق نفسيهما وحق الشعر. ولعل أعمالهما الأخيرة، المستهلكة والمكررة والهزيلة، باتت للحين في حكم السقوط، لكنها طبعاً لن تؤثر سلباً في صنيعهما الحقيقي. كان الكاتب الفرنسي أندريه مالرو يصر على الكتابة حتى اللحظة الأخيرة، على رغم علمه بأنّ ما يكتبه ب «قلم منهك» لا قيمة له. وكان يبرّر هذا «العناد» قائلاً: «تنفتح الورقة البيضاء أمامي، فأروح أكتب كيفما اتفق لي أن أكتب». أما دوستويفسكي الذي كان يكبّ على الكتابة بوحشية فجعل الكنبة التي ينام عليها، إلى جانب المكتب الذي يكتب عليه. وقد توفي على كنبته الشهيرة هذه بالقرب من المكتب الذي تركه على آخر رمق. ليس المهمّ أن يدرك الكاتب متى عليه أن يبدأ الكتابة وكيف عليه أن يكتب ويطور نفسه وينتقل من مرحلة إلى مرحلة. بل الأهم أن يدرك متى يجب عليه أن يتوقف عن الكتابة. لكنّ قراراً كهذا هو بمثابة قرار بالانتحار. ومَن مِن الكتاب يجرؤ على المضي في مثل هذا القرار الذي يفترض شجاعة نادرة؟ أتذكر قولاً للشاعر أنسي الحاج هو أشبه بخلاصة جوهرية في شأن الكتابة، ومفاده أنه لا يكتب إلّا عندما يحين وقت الكتابة. والكتابة في نظره، هي التي تعلن قدومها وارتحالها. إنها الكتابة الشعرية حتماً هذه التي لا تخلو من مواصفات المعجزة.