تعتبر نيويورك من أهم المدن الأميركية فهي تتمتع بثقل كبير في مجالات التجارة والاقتصاد والفن والإعلام والسياسة، ويزدحم فيها الناس من مختلف البلدان، وتتميز باحتضانها أهم المقار العالمية وفي مقدمها مقر الأممالمتحدة الذي تتردد فيه أبواق الحرب والسلم في آن وفق ما تقتضيه الدول العظمى. أثارت هذه المدينة فضول الأدباء على اختلاف جنسياتهم ومنهم الشاعر اللبناني عيسى مخلوف الذي كان اصدر كتابًا عن نيويورك بعنوان «مدينة في السماء»، وقد ترجمه إلى الفرنسية فيليب فيرجو (دار جوزي كورتي - باريس)، يروي فيه تجربته كموظف في الأممالمتحدة ذهب في مهمة لمدة سنة إلى نيويورك التي أبهره جمالها وأقلقته وحشيتها في الوقت عينه: «هادئة هي نيويورك صباح اليوم، كأنها تعبت من صخبها المتواصل فاستراحت قليلاً». في البهو الداخلي لمبنى الأممالمتحدة، يجسد التمثال البرونزي للنحات هنري مور السلام في ملامح امرأة وقد أصبح هذا التمثال رفيق الراوي الأوحد وشعار عزلته فيقول: «أتساءل ماذا كنت لأفعل لو لم يكن موجودًا؟» ويضيف قائلاً: «لا يوجد مكان في العالم يتردد فيه صدى كلمة سلام كما يفعل هنا في مقر الأممالمتحدة مخزن الحروب التي يتم حفظها فيه جيلاً بعد جيل». بعد أيام من النقاشات التي أرهقت الكاتب، بحث عن سبيل لنسيان ثقلها القاتل. وخلال تجواله في نيويورك، التقى من جهة بملايين السود القادمين من القارة السمراء والمهاجرين الذين رسوا على أرض مانهاتن أو «الجزيرة الصخرة» كما يسميها والت ويتمان، والهنود وفقراء اليوم، ومن جة أخرى حشود مدمني العمل الذين لم يحتسبوا يومًا ساعات عملهم فاستحالوا رجالاً آليين من لحم ودم. هذه الجولة النيويوركية أطلقت شرارة التفكير في «المنفى الرئيس» الذي يعانيه الإنسان في وطنه ومحيطه وأحيانًا في جسده. إنه المنفى الداخلي المتمثل بالبشرة السوداء والذي صبغت به نفس توني موريسون منذ نعومة أظافرها ما جعلها تطلق العنان لريشتها المبللة باللون الأسود مؤكدة أن الإنسان «الأسود» عندما يواجه هذا الكم الهائل من الكراهية ينتهي به الأمر إلى مقت نفسه فيشعر بأن لون بشرته عبءٌ عليه. وأضافت أن العنصرية لا تطاول السود وحسب وإنما الفقراء على اختلاف ألوان بشرتهم أيضًا. خلافًا للإيقاع السريع الذي تتمتع به النصوص، تقترب الكتابة من الشعر النثري: فيترك الكاتب صخب المدينة فجأة ليدخلنا مكانًا مناسبًا للحلم نصل فيه إلى حد التأمل. ويستقصي مخلوف عن المصدر الذي يتدفق منه الفن، وهذا ما يؤكده «جمال بياتريس». ففي حين وجد دانتي في بياتريس رمزًا للجمال، اكتشف الكاتب بدوره أن النظرة التي أسرته أصبحت جزءًا لا يتجزأ من حاضره ومستقبله. يرى دانتي في حبه لبياتريس تحفة فنية مشابهة لتلك العائدة إلى فناني عصره. ويمكن أن تترجم مراقبة الواقع اليومي إلى قصيدة نراها تبصر النور أمام أنظارنا. وهكذا كان بعد أن رأى امرأة حاملاً في حي سوهو إذ إن قصيدة «صوت المرأة الحامل» قد غيرت صورة المشهد عندما تخيلها الكاتب تتحدث إلى طفلها. ويستحضر الكاتب لوحات من باحة مسجد إبن طولون في القاهرة تتمثل في صفحات جميلة من الحاضر الذي تخلص فجأة من التبعية: «يبدأ التغيير من العتبة ومن همسات الأرض والسماء. يسيطر عليك النور الداخلي والزمن، الذي توقف منذ ألف سنة، يهجرك مخلفًا حفرة بين عالمين ورؤيتين وبين الطريق والطريقة.» إن باحة مسجد إبن طولون تتشابه والقلعة الأممية. ومن هنا، ألَّف عيسى مخلوف ما ألف بانسجام تام ونتجت منه فكرة جمالية هي: التهرب من الواقع يدعو الجميع لا إلى الانغماس فيه وحسب بل إلى مساءلته أيضًا.