ما زال الشاعر الإيطالي دانتي أليغييري (1265-1321) وهو أحد أبرز رواد عصر النهضة الأوروبية، موضع اهتمام عدد كبير من الباحثين في الغرب، الذين فتنهم شعره وشغفوا بأعماله، فعرفنا ما سمي ب «الدراسات الدانتية» التي تركز في معظمها على «الكوميديا» باعتبارها عمل دانتي الأشهر والأهم، وواحدة من الروائع الكبرى التي ساهمت في تأصيل الثقافة الأوروبية في بداية انطلاقها. وعلى رغم الاهتمام الكبير الذي لاقاه دانتي في الغرب، فإننا نجد أن هذا المبدع العبقري لم ينل الاهتمام اللائق به حتى الآن في الدراسات العربية. ولعل كتاب «دانتي والشرق» للباحثة الأميركية بريندا دين شيلديغين، الذي ترجمه الى العربية سمير كرم، وصدر أخيراً عن المركز القومي للترجمة في القاهرة، يتفرد بأنه لم يقتصر على دراسة «الكوميديا الإلهية» فحسب، كمعظم الدراسات التي تعرضت لدانتي، وإنما تطرق إلى جانب آخر، متناولاً معرفة دانتي بالشرق. تذهب شيلديغين - عبر فصول هذا الكتاب الذي يتميز بالبحث الدقيق - إلى أن معالجة دانتي للمشرق مكنته من أن يستخدم الخطابة التي كانت مستخدمة في المرويات الصليبية، وأن يتطلع إلى إصلاح الكنيسة والدولة على السواء. تؤكد شيلديغين معرفة دانتي بالمشرق من طريق تفصيل إدراكه للجغرافيا التجريبية ورسم الخرائط، اللذين كانا يتماشيان مع النظريات السائدة للقرنين الثالث عشر والرابع عشر. غير أنها تذهب في تدليلها على ذلك، إلى أن دانتي كان يعارض التقاليد التي كانت تسود فن رسم الخرائط والمعتقدات والمرويات الصليبية، من طريق استبدال الرحلات المجازية بحج أدبي، وكان بذلك يحوّل التركيز بعيداً من البصيرة المادية للأماكن المذكورة في الكتاب المقدس والمستخدمة في المرويات الصليبية والمرويات الأخرى. تصور شيلديغين – وهي تمزج البحث التاريخي الرصين بالفكر التجديدي المعاصر - كيف كان تبني دانتي الفريد للخطابة الصليبية يمنحه دور المعلّم، فقد كان – بحكم انشغاله الذهني بالبلاد الواقعة وراء الحدود الأوروبية - إنما من دون أن «يمشرقها» أو يصنع منها «تعويذة» – يضع موضع التساؤل مفهوم الخلاص خارج البلاد المسيحية، ويطلق رسالة شعرية ملتهبة على عالم لاتيني متدهور مزقته الأزمات، عالم لا يرقى إلى مستوى مثله العليا المعلنة. وفي توقير دانتي العميق للمشرق تصبح عجائبه رموزاً لعظمة البارئ وجمال المملكة الإلهية. تؤكد شيلديغين في مقدمة الكتاب أن البؤرة الجغرافية لمؤلف دانتي «الكوميديا الإلهية» هي أوروبا، لكن ليس بسبب «المركزية الأوروبية» بل على النقيض من ذلك، فلأن دانتي مشغول دوماً بالأزمات السياسية والكنسية في عصره يتبنى الشرق ويغير هيئتها عما كانت مستخدمة في المرويات الصليبية وغيرها من أدب الرحلات، ليحول قصيدته إلى حملة صليبية لإنقاذ فلورنسا وإيطاليا وأوروبا والكنيسة المسيحية. إن الشرق كفكرة أساسية في قصيدة دانتي يغاير موضع اهتمامه - أوروبا - من شرق البحر الأبيض المتوسط وما وراءه. فنتيجة للحملات الصليبية، وزيادة في النشاط التجاري وتقارير الرحالة كانت هذه المناطق برزت كأماكن إثارة ودهشة وتوسع بدءاً من القرن الحادي عشر. ولا يركز دانتي على الحواف الشرقية للعالم المعروف (الهند والحبشة) لكنها مع ذلك تؤدي وظيفة تحديات لليقينيات السياسية والدينية التي تحكم هذا المشروع الشعري. إن دانتي – في نظر شيلديغين - يمثل شروقاً كثيرة بينها شرق سياسي وشرق غربي، كذلك شرق متخيل، ومع ذلك فلا واحد منها يثير قلقه أو خوفه. وتحليل معالجة دانتي للشرق والغرب، وهو بالتأكيد «جغرافيا متخيلة»، سيرينا أن الشرق ليس موضوع خوف أو افتتان، إنما هو موضع التضاد والجدال، هو مكان يستطيع الشاعر منه أن يختبر مواقف لاتينية غربية منتشرة إلى جانب اختبار قناعاته الشخصية. ومن هنا، فإن الشرق يمثل في «كوميديا» دانتي نوعاً آخر من الاختلاف الذي يدخله إلى قصيدته. أفضى أمل دانتي السياسي به إلى إنشاء «جماعة متخيلة»، أوروبا موحدة قائمة على أساس المثل الأعلى للسلام الروماني، فإذا كان دانتي حاول أن يبعث من جديد النموذج القديم للإمبراطورية، وهو نظام سياسي «عالمي» فإنه في «الكوميديا» يدفن ذلك النموذج الميت ويستبدله ب «فكرة أوروبا» وتظهر فكرة «أوروبا المتحدة» هذه – التي يتخيلها دانتي - في تعارض مع الحركة التوسعية للحملات الصليبية تحت لواء عالم مسيحي متّحد، وبالمثل ضد البعثات التجارية والتبشيرية إلى الشرق. كذلك تذكر المؤلفة أن دانتي حرم من موطنه، لذلك فإنه كشاعر منفي يصمم منظراً طبيعياً حيث فضاء رغبته، وخططه الطوباوية ومكانته الرؤيوية تجد تعبيرها. إن دانتي - كما تذهب شيلديغين - يحول خسارته لفضاء ألفه إلى مجاز للخسارة الأولى، لطرد الزوجين الأولين من الجنة. إنه يعبر عن رحلة حجه بعبارات استعادة الفردوس. وفي آخر فصول الكتاب تتناول شيلديغين الطريقة التي كان يجعل بها دانتي الجغرافيا والفيزيقية مجازية، والكيفية التي تقوض بها الرؤيا الإعجازية كل الرحلات والعجائب التي وصفها رحالة العصور الوسطي. وتكشف كيفية استخدام دانتي المحدود ل «مادة الشرق» أي كيف ولأي غرض يقوم أناس الشرق وسلعه وأرضه في «الكوميديا» لكي يقدم دانتي شرق العجائب بأسلوبه الشعري المعتاد، يحول حكايات الروائع المادية إلى رؤى وإعجاز. فمواضيع الطبيعة والعجائب والمعجزات كانت تناقش مطولاً في شكل خاص باعتبارها مشكلات فكرية في زمن دانتي. وبينما يتبنى دانتي مواضيع «مادة الشرق»، فإنه يحولها لأغراضه اللاهوتية والشعرية، إنها لا تفيد فقط خياله الطوباوي، إنما تصبح أيضاً واحدة من وسائله لمواجهة المداولات الفكرية المركزية لزمانه.