المملكة تختتم أعمال الاجتماع الثالث لوكلاء اللجنة الدولية للشؤون النقدية والمالية    السعودية تتأهل لكأس العالم لكرة القدم تحت 17 عاما للمرة الرابعة في تاريخها    مذكرة تفاهم سعودية إسبانية في كرة القاعدة والكرة الناعمة    نائب أمير المنطقة الشرقية يستقبل رئيس وأعضاء مجلس إدارة جمعية "طويق"    انطلاق أعمال الاجتماع السابع لمجموعة تخطيط وتنفيذ سلامة المطارات (7/ASPIG)    "أمالا" تُثري بينالي الفنون الإسلامية بجلسات حوارية وورش عمل مبتكرة    مجمع إرادة بالرياض: أكثر من 8000 حالة استفادت من خدماتنا خلال شهر رمضان    وزارة الداخلية: غرامة 100 ألف ريال للشركات المتأخرة في الإبلاغ عن تأخر مغادرة الحجاج والمعتمرين    500 مليون ريال الزيادة المتوقعة على إيرادات دله الصحية في العام الأول بعد استكمال الاستحواذ على مستشفيات السلام والأحساء بالمنطقة الشرقية    تحت رعاية خادم الحرمين الشريفين.. حرم الملك تكرم الفائزات بجائزة الأميرة نورة للتميُّز النسائي في الأربعاء    القمة الثلاثية بين السيسي وماكرون وعاهل الأردن قد تُشكل تحولًا دوليًا تجاه الوضع في غزة    انفراجة لأزمة السودانيين العالقين بمعبر أرقين.. الدعم السريع ينفذ مجزرة تجاه مدنيين في «إيد الحد»    استقبل ونائبه المهنئين بعيد الفطر.. المفتي: حريصون على نشر العلم الشرعي بالأحكام العامة والخاصة    سماحة المفتي العام و"نائبه" يستقبلان المهنئين بعيد الفطر    في ختام الجولة 26 من دوري" روشن".. الشباب يتغلب على الوحدة.. والخليج يعمق جراح الرائد    نونو سانتو وكونتي وتن هاغ أبرز المرشحين لخلافته.. غضب جماهير الهلال يقرب جيسوس من البرازيل    غداً.. جدة تحتضن قرعة بطولة كأس آسيا للسلة    قفزة نوعية لقطاع التجارة..القصبي: نظاما السجل والأسماء التجارية يسهمان في تيسير الأعمال    الزهراني يحتفل بزواج «أسامة»    منسوبو مركز التنمية الاجتماعية في جازان يقيمون حفل معايدة بمناسبة عيد الفطر    زياد البسام يحتفي بلقاء العيد    العثور على تائهين في صحراء حلبان    المرور: الحجز والتنفيذ بعد انتهاء مهلة التخفيض    «المنافذ الجمركية» تسجل 1071 حالة ضبط    طريق عفيف - ضرية.. الخطر قادم    بهدف تزويد رؤساء ومديري إدارات تقنية المعلومات بالخبرات.. أكاديمية طويق تطلق برنامج «قادة تقنيات المستقبل»    4.88 % عائد إصدار "صح" لشهر أبريل    ليالي في محبة خالد الفيصل.. معرض يجسد سيرة قائد وشاعر وإداري مبدع    حفل معايدة لأهالي «القرص» بأملج    المثالية بين الوهم والواقع.. عندما يكون العدل أولى من التسامح    العلاقة بين وسائل التواصل والتربية السليمة    صدح بالآذان 40 عاماً .. الموت يغيب المؤذن محمد سراج ليلة العيد    تأخر إجراء جراحة يفقد بريطانية ساقها    واشنطن.. الانقلاب على العولمة الأميركية    مساعد رقمي للعمل في المصانع    منصة TikTok فرعية للفنانين    هل يقرأ الذكاء الاصطناعي رسائل WhatsApp    الوجه المظلم لتغطية YouTube انخفاض المستخدمين والمبيعات في صناعة الألعاب    أطفال الحارة الشعبية حكايا وأناشيد    القصّة أثر تثقف 1000 طفل    من اختطف الهلال؟!    "البصيلي": يستقبل المهنئين بعيد الفطر المبارك    الجيل يقترب من دور «يلو»    "أخضر السيدات" للشابات يتعادل وديّاً مع البحرين    ساعة على الهاتف تزيد من الأرق    دور غير متوقع للخلايا الميتة    أطعمة للحفاظ على صحة المفاصل    اليمن: مقتل وإصابة ستة أشخاص في قصف أميركي    أمير حائل: المرحلة المقبلة تتطلب تحقيق التحول المؤسسي والخدمي    نائب أمير الشرقية تلقى تهاني منتسبي الإمارة    إيران: عُمان وسيط المحادثات مع الولايات المتحدة    «أبوظبي» يطلق مؤشراً لقياس «قوّة ارتباط المجتمع باللغة العربية»    أميركا تلغي تأشيرات مواطني جنوب السودان    حصاد العمر المثمر كتب المصحف بخط يده    الأمير سعود بن نهار يستقبل المهنئين بمناسبة عيد الفطر    رجال الأمن.. شكراً لكم من القلب    مطلقات مكة الأكثر طلبا لنفقة الاستقطاع الشهري    بلدية محافظة الشماسية تحتفل بعيد الفطر المبارك    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



فيليب روث يكشف لعبة القدر البشري
نشر في الحياة يوم 16 - 11 - 2012

بغية تسهيل فهم مساره الكتابي الطويل الذي يمتد على مدى نصف قرنٍ، عمد الكاتب الأميركي فيليب روث منذ سنوات إلى تقسيم رواياته الغزيرة إلى أربع مجموعات وفقاً للشخصية التي تؤدّي الدور الرئيس فيها. وفي هذا السياق جمع الروايات التي نشطت فيها شخصية زوكرمان، ثم تلك التي تركّزت على شخصية كيبيش، فالروايات التي يظهر الكاتب فيها شخصياً، من دون أن ننسى تلك التي تختلط فيها شخصيات ومواضيع من نصوصٍ سابقة بشخصياتٍ ومواضيع جديدة.
ولكن منذ فترة قصيرة، انطلق روث في كتابة رباعية تحت عنوان «نيميسيس» (Némésis) تتميّز بنصوصها القصيرة وبطغيان موضوعَي الموت والحُكم الأخلاقي عليها. وعلى رغم جدّية هذين الموضوعَين، بدت الأجزاء الثلاثة من هذه الرباعية ضعيفة في نظر بعض النقّاد تبعاً لمثابرة روث فيها على مقاربة هواجس جنسية يصعب تبريرها لدى رجلٍ كان قد بلغ العقد السابع من عمره. ولعل هذا ما دفعه في خاتمة هذه الرباعية، التي صدرت ترجمتها الفرنسية حديثاً لدى دار «آكت سود» الباريسية، إلى منحنا نصّاً عفيفاً وقوياً يحمل عنوان الرباعية ويمدّها بتماسكٍ استعادي أكيد.
وتجدر الإشارة أولاً إلى أن «نيميسيس» هي إلهة الانتقام لدى الإغريق، كما أنها عبارة شائعة في الولايات المتحدة تعني القدرية التي يستحيل الإفلات منها. وبالنسبة إلى الشخصية الرئيسة للرواية، باكي كانتور، تحضر هذه القدرية على شكل مرض شلل الأطفال (poliomyélite)، أو هذا ما نظنّه في البداية. أما أحداث الرواية فتقع خلال السنة الأخيرة من الحرب العالمية الثانية في مدينة نيوويرك (Newark) التي وُلد فيها روث وترعرع.
وباكي كانتور هو شاب في سن الثالثة والعشرين يعمل أستاذاً للرياضة في مدرسة «شانسلور أفينيو». ومع أنه بطلٌ في السباحة والغطس مفتول العضلات، لكن بسرعة يتبيّن لنا أنه قبل أي شيء شخصٌ يؤمن بالواجب لتعلّمه على يد جدّه، الذي ربّاه على أثر وفاة أمه، أن الرجولة تكمن خصوصاً في تحمّل المسؤوليات التي تقع على عاتقنا. ولأن صديقيه الحميمَين نجحا في الانخراط بالجيش ورحلا إلى فرنسا لمحاربة النازيين، نجده يتحسّر على وضعه لعدم تمكّنه من مرافقتهما بسبب ضعف نظره الذي حال دون قبول تطوّعه. لكن قدره سيمنحه فرصة القتال على جبهة من نوعٍ آخر لا تقل شراسةً عن جبهة الحرب. إذ لن تلبث عدوى مرض شلل الأطفال القاتلة آنذاك أن تنتشر في مدينته حاصدةً الصغار والكبار، الواحد تلو الآخر، فتحل حالة من الهستيريا الجماعية والخوف على سكان نيوويرك بعد إخفاق كل التدابير الاحترازية لإيقاف هذه العدوى.
وبسرعة، يأخذ باكي على عاتقه مهمة السهر على سلامة تلاميذه وتعزية الأهالي الذين فقدوا أولادهم وتهدئة جموح بعض سكان المدينة الذين يبحثون عن كبش محرقة للثأر منه. وبعد رفضه في البداية الالتحاق بحبيبته مارسيا ستاينبرغ التي كانت تعمل في مخيّم للأطفال في جبال بوكونوس، بعيداً من العدوى، على رغم عثورها على عملٍ له في المخيّم، يستسلم في النهاية لرغبتها، خصوصاً أن العناية الإلهية نفسها بدت له وكأنها قد تخلّت عن مدينته. لكن فرار باكي من قدره لن يكون سوى فرار وهمي. فمثل أوديب الذي حقّق نبوءة كاهنة معبد دلفي بمحاولته الإفلات منها، تلحق العدوى بباكي إلى المخيّم، قبل أن يتبيّن له أنه هو مَن أتى بها. ومع أنه يفلت من الموت فهو يصاب بالشلل فيقطع علاقته بمارسيا لتحريرها من عبء الاهتمام به ويحكم على نفسه بالعزلة والتعاسة حتى النهاية.
تراجيديا الحقيقة
بأسلوبٍ مصفّى إلى أبعد حد ومهاراتٍ سردية نادرة، يمنحنا روث في هذه الرواية تراجيديا حقيقية. فبطلها يبدو محكوماً بالخضوع لقدرٍ أسوَد على رغم إرادته الصلبة ونياته الطيّبة. وإلى جانب موضوع الموت الكلّي الحضور فيها، يطغى على أحداثها موضوعَا الخوف والظلم: خوفٌ يستشري في أنحاء المدينة ويطاول باكي الذي يخشى ألا يكون في مستوى المسؤوليات الواقعة على عاتقه؛ وظلمٌ يستشعره باكي بسبب وفاة أمّه أثناء إنجابه وعدم معرفته لأبيه وبسبب حصد العدوى، تحت أنظاره، عشرات الأطفال الأبرياء، مما يدفعه إلى حد مساءلة قناعاته الدينية على ضوء المآسي المتتالية.
ومثل سائر روايات روث، ثمة جدلية فاعلة داخل هذا النص بين حسّ المسؤولية والرغبة، بين ما علينا أن نفعله وما نرغب في فعله، بين اتّباع صراطٍ مستقيم والاستسلام لملذّات الحياة. ومع أننا نعرف إلى أي جهة كان يميل الكاتب في الماضي، ها هو يبرهن عن تحوّلٍ غير متوقع في موقفه. ومع ذلك، تبدو قيَم النزاهة والتضحية بالذات التي تتحلى بها شخصية باكي، وتجذبنا داخل الرواية، غير مجدية ولا تقود إلى أي مكان.
ففي البداية، تظهر مشاكل باكي وكأنها ناتجة من قراره الالتحاق بحبيبته وإهمال واجباته تجاه أطفال مدينته وأهاليهم، ولكن في النهاية يتبيّن لنا أن سبب بؤسه الحقيقي هو حسّ الواجب المفرط لديه وتوقه إلى المسؤولية الكاملة واعتقاده بأن ثمّة معنى لكل شيء. فمع انطلاق العدوى، يوجّه أصابع الاتهام إلى البارئ قبل أن يحوّل غضبه في اتجاه نفسه، لأن أناه المثالية الثائرة تتطلّب مذنباً ولا تقيم أي اعتبار للعارض والعبثي اللذين يتحكّمان بقوة في حياتنا.
ومقارنة بشخصيات روث السابقة، يظهر باكي كشخصية باهتة ينقصها حسّ الطرافة. وبرسمها على هذا النحو، يحذف الكاتب منها ما يُشكّل قوّته وميزته الرئيسة. لكن هذه الشخصية هي أيضاً مقابلٌ ضروري لكل الغرائز الحاضرة في أعماله السابقة. وحين نفكّر قليلاً، يتبيّن لنا أن من المنطقي أن يترك روث للنهاية تحدّي استكشاف حياةٍ مضادّة قائمة على الحرمان والتزهّد، خصوصاً أن هذا النصّ هو خاتمة مساره الروائي.
ولم يخطئ النقّاد الذين أشاروا إلى تشابهٍ كبير بين هذه الرواية ورواية ألبير كامو «الطاعون». فمثل هذا الأخير، يضعنا روث أمام شخصيات عليها مواجهة عدوى مميتة ولا سلاح في يدها سوى اللجوء إلى ضميرها المعذّب، ويروي كذلك تطوّر هذه الكارثة والهلع الذي يحلّ على سكان المدينة ويدفعهم إلى البحث عن المذنبين. وبينما يرمز الطاعون في رواية كامو إلى احتلال الألمان لفرنسا، تشكّل العدوى المتربّصة بالطائفة اليهودية في مدينة نيوويرك، في رواية روث، استعارة قوية لعملية الإبادة الجماعية لليهود التي كانت سائرة في الوقت ذاته في ألمانيا.
وثمة بُعدٌ مجازي آخر في هذا النص يتعلّق بهرم جسدنا الحتمي مع مرور الزمن، بعد اختبارنا الصحة والعافية. ولوصف ذلك، اعتمد روث على التصوير السريع عبر جعلنا نرى باكي بجسدٍ رياضي يتحوّل بين ليلةٍ وضحاها إلى جسدٍ مشلول يتطلّب تحريك أحد أعضائه جهداً جبّاراً.
لكن أكثر ما يشدّنا في هذه الرواية يبقى وصف روث الدقيق داخلها لعنف العواطف الناتجة من الكارثة الواقعة وتصويره من أقرب مسافة ممكنة حال كلّ من باكي وحبيبته والأشخاص الذين ضربتهم العدوى، مبيّناً تفاوت ردود فعل البشر تجاه أي محنة ومسلّطاً ضوءاً كاشفاً على الألم الذي يتربّص بنا طوال حياتنا ويضربنا عاجلاً أو آجلاً في عمق كينونتنا فيكشف لنا حقيقة وضعنا الهشّ وعزلتنا تحت سماءٍ صمّاء.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.