من بنغلادش وكمبوديا والهند في شرق الأرض إلى الولاياتالمتحدة وتشيلي في غربها، مروراً بالدنمارك شمالاً، تبارى المتسابقون واجتهد المحكمون، وتسارعت أنظار المراقبين ترقباً لنتيجة المتباري الفائز. أيهم تفوق في الخروج من نطاق المناهج التقليدية؟ ومن منهم تميز في الابتكار والتحليق في فضاء الاختراع من أجل التعليم، الوطن الوحيد الذي لا حدود له؟ وإيماناً بأن التحديات التي تواجه التعليم هي الأخرى أبعد من حدود السياسة، خرج «وايز» هذا العام بستة مشاريع مميزة من بين مئات تقدمت للحصول على الجائزة السنوية لمؤتمر القمة العالمي للابتكار في التعليم. وهل هناك ابتكار أكثر من مدارس عائمة تعمل بالطاقة الشمسية لتعليم الأطفال في المناطق المعرضة للفيضانات؟ وهل هناك إبداع أكثر من «روبوت» (إنسان آلي) قادر على تحويل الملفات لتُقرأ بطريقة «برايل»؟ وهل هناك أحلى من تفاعل إلكتروني لمرحلة ما قبل الجامعة ينتفع منه ملايين الطلاب؟ وهل هناك أفيد من مدرسة ثانوية تدعم طلابها الفقراء أكاديمياً وتوفر لهم فرص عمل تنمّي دخولهم إلى جانب الدراسة؟ وهل هناك أسمى من تعليم متميز جداً للطلاب الفقراء جداً المقيمين في أماكن نائية جداً؟ وهل هناك أحسن من جهود تبذل لدعم عائلات وأطفالها تقطن في منطقة دفن نفايات خطرة؟ الإجابة هي «نعم»، سيظل هناك ما هو أفضل وأحسن وأقيم وأفيد من الأفكار والمشاريع، ولكن جارٍ اكتشافها ودعمها في «وايز»، والمشاريع الستة المتبارية على الجائزة الكبرى هذا العام هي الأفضل والأحسن لحين إشعار آخر في عام آخر في دورة جديدة ل «وايز»! الفتيات الفقيرات أما هذه الدورة، فإن جهود مؤسسة «ساتيا بارتي» التي تقدم تعليماً شاملاً (من حيث الجودة والعدد) ومجانياً للأطفال المحرومين في المناطق الريفية في الهند، لا سيما الفتيات، وضعت تحت مجهر «وايز». برنامج المؤسسة التي شنت مبادرة التعليم في عام 2006 بالتعاون مع حكومات الولايات بهدف استكمال منظومة التعليم، أفاد ما يزيد على 62 ألف طفل، 48 في المئة منهم من الفتيات، و76 في المئة من الأقليات، و24 في المئة من عائلات فقيرة، وذلك في خلال السنوات الست الماضية. وحالياً يستهدف البرنامج أكثر من 37 ألف طفل في 750 قرية هندية. ولعل الميزة الكبرى في هذه المبادرة ليست التعليم المتميز لتلك الفئات المحرومة، بقدر ما هي توعية الأهل والمجتمعات بأهمية الحصول على تعليم عالي الجودة، وهو ما يؤدي حالياً إلى تجهيز أجيال بأكلمها من الصغار المتعلمين تعليماً جيداً، والواثقين في قدراتهم، والواعين بطبيعة مجتمعاتهم وحاجاتها. ليس هذا فقط، بل إن مؤسسة «ساتيا بارتي» – أحد المشاريع الستة المرشحة للجائزة الكبرى - توفر فرصاً اقتصادية لسكان تلك القرى من خلال تشغيل السكان في نشاطات خاصة بالمدارس. بمعنى آخر، تبقى مبادرة «ساتيا بارتي» نموذجاً قابلاً للتكرار لما ينبغي أن يكون عليه التعليم العالي الجودة والمنخفض الكلفة والمتعدد الفائدة. النفايات والتعليم ويبدو أن المشاريع المتعددة الفوائد هي كلمة السر في دورة «وايز» هذا العام. فمن الهند إلى كمبوديا حيث تم تحويل لعنة العيش في منطقة دفن نفايات إلى قيمة مضافة، ولو كانت موقتة لحين تحسن الأوضاع، غيّر «صندوق الأطفال الكمبوديين» حياة ألف أسرة تعيش وتعمل في منطقة دفن نفايات إسمها «ستينغ مانشي» على مشارف بنوم بنه، وذلك بمنح أطفالها التعليم باعتباره حاجة أساسية وبديهية. ولأن التعليم لا يقف وحيداً، بل تتضامن معه وتتكامل به الصحة والرعاية، فإن المشروع يقدم تعليماً ابتدائياً متميزاً مع رعاية طبية ودار حضانة بالإضافة إلى برنامج لرعاية الأمومة. أما المدارس نفسها، فتوفر لطلابها إقامة آمنة، ورعاية صحية، ومياه شرب نظيفة، ووجبات ساخنة، وفيتامينات بالإضافة إلى عملية تعلم سريع لنحو 450 طفلاً تتراوح أعمارهم بين ستة و 18 عاماً. وقد تبدو هذه البيئة المتوافرة للصغار جنة مقارنة بما تعيش فيه أسرهم الذين شاءت أقدارهم أن يعيشوا في إحدى أكثر المناطق حرماناً وبؤساً والأكثر تلوثاً في العالم. وتبقى هذه العائلات على قيد الحياة من خلال التنقيب في تلال النفايات والقمامة للعثور على ما يمكن بيعه والارتزاق منه، ويبقى صغارها معرضين للعنف والاستغلال الجنسي والإتجار والمرض. وتولى الصندوق بناء ثلاث مدارس متصلة عبر الأقمار الاصطناعية من أجل تعليم الأطفال المحرومين في القرى النائية، والذين عادة يحرمون من فرصة التعليم لقسوة الأوضاع من فقر، وعمالة أطفال وغيرهما. القارب المدرسي قسوة الأوضاع في مناطق أخرى في العالم تجبر الأطفال على التوقف عن الذهاب إلى المدرسة، لكن هناك من عمل على أن تذهب المدرسة إليهم... في بنغلادش، حيث مياه الفيضان دائماً ما تضع انتظام الأطفال في المدارس على المحك. ولذلك جاءت فكرة المدارس العائمة التي تجمع بين باص المدرسة والبيت المدرسي، ويجول الباص «القارب» على الأطفال في القرى المطلة على الأنهار، ثم يتوجه بهم إلى مكان يمكن أن «يرسو» فيه، فيبدأون عملية التعلم من خلال مجموعات صغيرة. تقوم فكرة مؤسسة «شيدوالي سوانيرفار سانغستا» غير الهادفة للربح باعتبار كل «مركب» فصلاً مدرسياً متحركاً يسع 30 طالباً وطالبة، ومزوداً بكومبيوتر محمول متصل بالإنترنت، إضافة إلى مكتبة وموارد معرفية إلكترونية. وينتهي اليوم الدراسي على متن «القارب» المدرسي ليبحر الباص موصلاً تلاميذه إلى بيوتهم، ليلتقط مجموعة جديدة لبدء يوم دراسي آخر. ولم تتوقف حدود الإبداع عند هذا الحد، بل إن «المركب» المدرسي يعمل بالطاقة الشمسية، ما يجعل ساعات العمل تتمتع بالمرونة، بالإضافة إلى أن كل طالب يصطحب معه الى البيت مصباحاً مشحوناً بالطاقة الشمسية يمكّنه من المذاكرة وعمل الواجبات ليلاً، ويمكّن والدته من الحياكة علها تتمكن من تأمين دخل إضافي للبيت. أما القوارب فتعرض على «أشرعتها ليلاً برامج توعوية تعليمية يمكن السكان مشاهدتها من بيوتهم». رؤية ورؤيا ويظل هناك من هو غير قادر على المشاهدة أو حتى الرؤية، لكن تظل الرؤى موجودة وبقوة: «روبو برايل» أو الروبوت – الإنسان الآلي - القادر على تحويل المواد والنصوص التعليمية إلى نظام «برايل»، وملفات «إم بي 3» وكتب إلكترونية، وبرايل مرئية للمكفوفين ومن يعانون مشاكل في الإبصار، وغيرهم من ذوي الحاجات الخاصة. المركز الوطني لأطفال الدنمارك المكفوفين والمحدودي الإبصار قدم هذه التقنية في عام 2004 عبر البريد الإلكتروني مجاناً ومن دون حاجة إلى التسجيل لأطفال الدنمارك المكفوفين كي يتيح لهم المادة التعليمية بطريقة «برايل» أو غيرها من التقنيات المسموعة، وهو ما أتاح لهم الاندماج في منظومة التعليم الرئيسة، وهي حالياً خدمة متاحة للجميع في الدنمارك وخارجها. واليوم يقدم «روبو برايل» خدماته لما بين ألف وألفي مستخدم في العالم بالإنكليزية والعربية والفرنسية والهولندية والبولندية وغيرها من اللغات. تأهل إلكتروني خدمة عنكبوتية مجانية أخرى تصب في المسار التعليمي، ولكن هذه المرة في تشيلي، وتحديداً لطلاب المرحلة الثانوية الذين كانوا في كل عام يتكبدون عناء الانتقال من مكان إلى آخر وتسديد رسوم باهظة من أجل التأهل للاختبار الإجباري للالتحاق بالجامعات. مشروع «إديوكارتشيلي» الذي تنفذه «فينداسيون تشيلي» أو «مؤسسة تشيلي» هو محتوى إلكتروني تفاعلي مجاني لطلاب المرحلة الثانوية الذين يتهيأون للالتحاق بالجامعات يمكنهم من تلقي الدروس اللازمة والتواصل مع المعلمين وغيرهم من الطلاب وهم في بيوتهم. هذا المشروع أدى إلى تحسن واضح في العملية التعليمية، ومزيد من التواصل والاتصال بين الطلاب وبعضهم، والوصول إلى المناطق النائية والفقيرة، وتضييق الفجوة الاجتماعية والاقتصادية بين الطلاب. وينتفع منه نحو مليون و200 ألف طالب سنوياً غالبيتهم من الفقراء محققاً نسبة نمو 13 في المئة كل عام. فقر متميز ويبدو أن المشاريع والابتكارات المقدمة إلى «وايز» هذا العام على قناعة تامة بأن الفقر لا يعني بالضرورة عدم الحصول على تعليم، أو الحصول على تعليم رديء. شبكة «كريستو راي» قدمت برنامج «التعلم العمل المشترك» الذي مكن الطلاب منذ ذوي الدخول المنخفضة من الحصول على التعليم والمساعدة في المرحلة الثانية، بالإضافة إلى فرص عمل مدفوعة الأجر في شركات محلية. ببساطة يقدم البرنامج فرصة تدمج التعليم والخبرة العملية، ما يؤهل الطلاب للنجاح في الدراسة الجامعية وحياته العملية. ويعمل طلاب شبكة «كريستو راي» الأميركية خمسة أيام في الأسبوع في شركات مرموقة، ويقوم رؤساء العمل بدور المعلم والميسر المدرسي. أما الدخول التي يحصلون عليها من عملهم، فيتم تسديدها كمصروفات مدرسية. هذا النموذج المتفرد لا يعتمد على التمويل الحكومي، أو سبل التمويل التقليدية، بل هو نموذج للاستدامة التي تحقق تعليماً وخبرة عملية من دون كلفة إضافية تتكبدها الدولة أو الأهل. يذكر أنه في عام 2010-2011 حقق طلاب «كريستو راي» 37 مليون دولار لدعم تعليمهم. وما دمنا نتحدث عن ملايين الدولارات، فإن قيمة جائزة «وايز» هي نصف مليون دولار، وهي الجائزة النقدية الدولية الأولى المخصصة للتعليم حيث الوطن من دون حدود. فعند أي من المشاريع الستة التي ترجمت شعار «وايز» هذا العام «تحويل التعليم» ترسو جائزة هذا العام؟ * صحافية من أسرة «الحياة»