هناك سؤالان شائكان يُطرحان منذ الوهلة الأولى: هل الهوية الأمازيغية مكوّناً أساسياً في شخصية المغربي، مُمثَّلةٌ كفايةً في التمثل الجماهيري الرمزي الذي هو الفن السابع مغربياً؟ وفي حالة التمثل، هل أخذ كلٌّ حقه الطبيعي والمتوافر في التواجد؟ لا بالتأكيد، باستثناء طبعاً الإرهاصات المشتتة هنا وهناك، في هذا الفيلم أو ذاك، وهي والتي تمكن ملاحظتها في مُنتج الفيلموغرافيا المتراكمة منذ خمسة عقود تقريباً. لكنها ليست سوى مواضَعات أملتها الصدف ومفترِض السيناريوات، وهذا الاستثناء هو ما نود الإشارة إليه والانطلاق منه لفهم هذا الغياب. لا الإكليشيهات السطحية، المُوظَّفة أحياناً لبعض خصوصيات المعطى الأمازيغي، ولا الإشارات القليلة العابرة للتاريخ والشخصيات العظيمة والمعطى الإتنولوجي الغني، ولا بعض الأفلام الناطقة بالأمازيغية جزئياً أو كلياً، وهي في جُلِّها ضعيفة وركيكة... ليس كل هذه وغيرها ما يمكن أن يقلل أثر الغياب ويمحو الصورة السلبية المستحدَثة من التجاهل العفوي أو المقصود للأمازيغية. طبعاً هناك أسباب موضوعية من صميم الواقع السينمائي في المغرب، ومن واقع الإخراج المغربي وواقع الذهنية المتحكمة بمصائر البلد، وأيضاً هناك أسباب غير موضوعية نهائياً، وهي تلتقي كلها في رسم هذا الغياب الكبير -أو التغييب- الذي لا مجال لاستمراره في زمن الدسترة والاعتراف، الدسترة بما تعنيه من ترسيخ على أعلى مستوى، شرعياً وقانونياً، لا مجال معه لعدم التطبيق والإفلات من المحاسبة والجحود المستند إلى النظر الخاطئ أو التأويل غير الواقعي للتاريخ أو غيره، والاعتراف بوجود منسيٍّ آن له أن يُتِمّ تمثيله بشكل يعي أهميته في الشكل كما في المضمون. من الأسباب الموضوعية الواضحة، ورغم أن الأمازيغية مشترَك وطني عام لا يستثني أحداً، ندرةُ المخرجين ذوي الأصول الأمازيغية أو المقيمين في المجال الأمازيغي، قرى كانت أو مدناً، وبالتالي هي حالة عادية ألاّ يكون المخرج مُطالباً بالتوفر على حساسية معينة تجعله يتناول موضوعاً أمازيغياً لغةً أو حكاية، حتى في حالة وجود مخرجين على ارتباط بمنطقة أمازيغية، على غرار المخرج المبدع الجيلالي فرحاتي المولود في «آيت واحي» بمدينة الخميسات. لكن ظروف إقامة فرحاتي الطويلة بمدينة طنجة وتكوينه السينمائي والثقافي الذاتي، ذهبا بإبداعه وُجْهةً فنية خالصة لا تعير المكان دوراً إلا بقدر توظيفه في شريط ما. ومن الأسباب الأخرى وجود وضع ثقافي لسنوات لم تكن فيه الأفلام منتَجة بعدد كبير أصلاً، الشيء الذي يحول دون وجود تنوع كبير في المواضيع. وحين تكاثر الإنتاج، كان السائد هو طغيان نظرة عامة تؤثث ذهنيات السينمائيين بطريقة غير مباشرة، تأثراً بالأفكار القومية والمشرقية الخالصة والوحدوية، التي ترى في اللغة العربية عاملَ وحدة ومقاومة ضد التغريب والغزو الغربي الخارجي والتغلغل الصهيوني، تبعاً لتصور أحادي كان يهاب بغير وجه حق، بروز تعابير الثقافات الوطنية الأخرى المتجذرة، وهو ما تجلى في طغيان أفلام لا تحضر فيها رموز هذه الثقافات إلا نادراً. ومن الأسباب غير الموضوعية: وجود رأي غير معلن لكن مضمر، يرى عدم الجدوى نهائياً في إنتاج أفلام ناطقة بالأمازيغية أو ذات حساسية فنية أمازيغية وإخراجها، وذلك بدعوى أن المغرب بلد جُلُّ سكانه من ذوي الأصول الأمازيغية أساساً، وأنهم ارتضوا اللغة العربية لغةً رسمية ولغةَ تخاطبٍ وتواصل للجميع، باعتبارها لغة الدين والكتابة، وبالتالي فلا داعيَ لتخصيص أفلام أمازيغية ضمن أجندة الأفلام المغربية. وجليّ أن هذا الرأي لا يستند إلى منطق وعقلانية، بل يُضادّ الواقع الفعلي للأمور، فوجود لغات متعددة داخل المجتمع الواحد عامل إغناء وإثراء وتعايش، وعامل وحدة قوي ومؤثر، تماماً كما بالنسبة لوجود ثقافات متعددة ومختلفة أرساها التاريخ والتقارب الجغرافي والرحلات الجماعية. كل هذه الآراء والأسباب لم تمنع وجود بدايات وإرهاصات لسينما مغربية ذات منحى ولون أمازيغيين، وقد تزعم هذا الأمر مخرجان جعلا من الأمازيغية موضعاً وطابعاً خاصاً ميز السينما التي يبدعان، أولهما المخرج محمد أمولود عبازي، الذي بدأ مشواره السينمائي منذ أكثر من ثلاثة عقود وعقب عودته من الدراسة السينمائية بكاليفورنيا الأميركية، وبعد أن عمل طويلاً في الإنتاج الأجنبي. وقد أخرج فيلمه الأول «من لواد لهيه» في بداية الثمانينات، وكان شريطاً ذا حكاية مدينية عن العلاقة بين الرباط وسلا كمدينتين متقابلتين عبر نهر أبي رقراق. وبعد سنوات طويلة، أنجز أول شريط مغربي أمازيغي تحت عنوان «كنوز الأطلس» (1997)، وهو يتناول مغرباً لم تدخله الحداثة بعد، عبر حكاية علاقة بين رجل قبيلة متنفذ في الجنوب الأمازيغي وبين ابن له ضال وعازب. وبعد عشر سنوات أخرى، أخرج عبازي فيلمه الثالث «إيطو تتريث» (إيطو النجمة) الناطق بالأمازيغية، ويتناول قصة طفلة تدافع عن حق البنات في التعلم والثقافة في فترة المقاومة ضد المستعمر الفرنسي، رابطةً بين الحق في الحرية والحق في التعلم. وقد فاز هذا الفيلم بالزيتونة الذهبية في مهرجان مدينة تيزي أوزو الجزائرية التي تنظم مهرجاناً للسينما الأمازيغية. والمخرج الثاني هو المرحوم محمد أوطالب مرنيش، الذي وافته المنية قبل أقل من شهر. وقد آل مرنيش على نفسه أن يخرج أفلاما ناطقة بالأمازيغية بمواصفات سينمائية حِرَفية بعد تجربة رائدة وكبيرة في مجال فيلم الفيديو الأمازيغي، وفي هذ الإطار أخرج ثلاثة أفلام مطولة خلال أقل من ست سنوات، أشرك فيها الكثير من الفعاليات الفنية والثقافية، وهي: شريط «تيليلا» سنة 2006، وقدم عرضه الأول وقتها في مدينة أغادير، مبدعاً حدثاً ومغيراً تقليداً كان يقتصر على مدن الرباطوالدارالبيضاءوطنجة وفاس. وشريط «تمازيرت أوفلا» (الأرض العليا) سنة 2009، ثم فيلم «واك واك أتايري» ( واك واك الحب) سنة 2011، والذي كتب له السيناريو الناقد خالد الخضري. والحق أن هذين المخرجين جعلا للسينما المغربية في بُعدها الأمازيغي حضوراً معنوياً هاماً، ورسّخا وجودها في المشهد السينمائي العام. وإن كانت قيمة أفلامهما الفنية تخضع للمساءلة والمقارنة.