الانتخابات الأميركية الرئاسية زودت المدرسة الانحدارية «الانحداريين» أو أولئك الذين يعتقدون أن الولاياتالمتحدة تسير على طريق الانحدار والتراجع، بمادة جديدة تؤكد صواب توقعاتهم. ولكن مؤتمر الحزب الشيوعي الصيني الثامن عشر الذي ينتخب القيادة الصينية الجديدة وفر مادة مشابهة لانحداريين جدد يرون أن التراجع والانهيار لن يكون مصير الولاياتالمتحدة وحدها بل سيكون مصير الصين أيضاً. هذه التوقعات لها رنين خاص وأصداء مسموعة في المنطقة العربية حيث يخوض فاعلون عرب وأجانب صراعاً دامياً من أجل رسم مستقبل المنطقة، ويرون أن مآل هذا الصراع يرتبط إلى حد بما يجري هذه الأيام في بكينوواشنطن. ترتبط «المدرسة الانحدارية» باسم المؤرخ الأميركي بول كنيدي الذي وضع في الثمانينات كتاب «صعود وانحدار القوى العظمى» وتنبأ فيه بمصير للولايات المتحدة يشبه مصير الإمبراطورية البريطانية بعد أن عجز اقتصادها عن تحمل الأعباء العسكرية الناجمة عن توسعها عبر القارات والبحار. وضمت المدرسة الانحدارية، عند نشوئها، فريقاً واسعاً من الأكاديميين والمثقفين والكتاب الليبراليين، وتجاوز النفوذ الفكري لهذه المدرسة الولاياتالمتحدة خصوصاً بعد أن أصدر كنيدي كتاباً بعنوان «التهيئة للقرن الواحد والعشرين» بيّن فيه أن الانحدار لن يكون محصوراً بالولاياتالمتحدة وحدها بل سيلحق بكثير من الدول الصناعية المتقدمة الأخرى بسبب العولمة وتداعياتها. بيد أن ما بدا كحمولة فكرية ارتبطت بالانحداريين الليبراليين واليساريين، ما لبث أن تحول إلى زاد غرف منه انحداريون جدد تخرجوا في مدارس اليمين المتطرف وبيئاته مثل جماعة «حفلة الشاي» الأميركية. وفي حين أن الانحداريين الأوائل دعوا إلى إيقاف أو إبطاء التراجع الأميركي من طريق الحد من النفقات والمغامرات العسكرية، فإن الانحداريين الجدد اعتبروا بالعكس، أن التراجع الأميركي يعود إلى تقاعس الولاياتالمتحدة عن تعزيز طاقاتها العسكرية، وإلى تخلفها عن تحمل أعباء الدفاع عن مصالحها وترسيخ زعامتها العالمية. بعض هؤلاء، مثل بول رايان مرشح الحزب الجمهوري لنيابة الرئاسة، قد يفضل سياسة الانعزال التي اتبعتها الولاياتالمتحدة بعد الحرب العالمية الأولى إلا عندما يتعلق الأمر بممارسة سياسة الحروب والقوة ضد العرب. فهنا كان رايان مع الحرب في العراق ومع الحرب إلى جانب إسرائيل ضد العرب. وفي حين دعا الانحداريون الأوائل إلى تحويل الموارد المادية التي تحوزها الولاياتالمتحدة من الموازنات الحربية إلى مشاريع لردم الهوة المتسارعة بين الأغنياء والفقراء، فقد اتهم الانحداريون الجدد الليبراليين واليساريين الجدد بأنهم يقدمون الأرض الخصبة لمؤامرة دولية تنفذها منظمة الأممالمتحدة والحكومة الفيديرالية الأميركية. اشتدت هذه الاتهامات بعد دخول باراك أوباما «الملون، المسلم، الشيوعي» إلى البيت الأبيض! بينما اعتبر الانحداريون الأوائل أن عوامل تراجع الولاياتالمتحدة نابعة من داخلها، فإن الكثيرين من الانحداريين الجدد يستعيرون من المؤرخ البريطاني الشهير نايل فيرغيسون رأيه القائل إن تراجع الولاياتالمتحدة لا يعود إلى عيوب في عمرانها السياسي أو الاجتماعي وإنما إلى صعود قوى عالمية جديدة وتحديها للزعامة الأميركية. تأسيساً على هذه النظرة، فإن الحل لمشاكل الزعامة الأميركية يبدأ مع التصدي المبكر والحازم للمنافسين الجدد وبحرمانهم من الموارد التي تسمح لهم بتحدي الولاياتالمتحدة. في هذا السياق، وعد رومني الأميركيين بأن أول عمل سيقدم عليه إذا دخل البيت الأبيض هو توجيه الاتهام إلى الصين بالاحتيال النقدي. وعلى رغم إخفاق رومني في دخول البيت الأبيض وفي تحقيق وعده، فإن الانحداريين الجدد لن يكفوا عن إغراق أسواق السياسة الدولية بتوقعاتهم المتشائمة حول مستقبل الصين. إن الانحداريين الجدد كثيراً ما يقارنون بين تجربتي الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفياتي (السابق) والحزب المؤسسي الثوري في المكسيك لكي يستنتجوا بأن أطول الأحزاب عمراً في الحكم لا يبقى فيه أكثر من سبعين عاماً، وأن أجل الحزب الشيوعي الصيني في السلطة سينتهي بعد أعوام قليلة. ويرى أصحاب هذه النبوءة أن سقوط الحزب الشيوعي الصيني لن يشبه سقوط الحزب الثوري المكسيكي حيث خرج الحزب من السلطة ولكن مع بقاء المكسيك بلداً موحداً، ولكن سيشبه سقوط الحزب الشيوعي السوفياتي بحيث تدب الانقسامات في الصين ابتداء من التيبت ومروراً بالمناطق الإسلامية والطلاق بين جنوب الصين وشمالها. وتتغذى هذه التوقعات في رأي الانحداريين الجدد، من البطء في صعود الصين الاقتصادي - وهذا ما يحصل فعلاً - بل من تراجعه أيضاً - وهذا ما لم يحصل. وتستند هذه التوقعات إلى بعض الدراسات ومنها تقرير أعده البنك الدولي مع باحثين صينيين ونشر خلال شهر شباط (فبراير) الماضي حول مستقبل التقدم الاقتصادي في الصين. يحذر التقرير مما يعتبره وقوع الصين في «فخ الدخل المتوسط» أي الدول المتوسطة الدخل في العالم، بدلاً من صعودها إلى مرتبة الدول ذات الدخل الأعلى. ويشير التقرير إلى ثغرات تفتح الباب أمام هذا المآل مثل توسيع الطاقة الإنتاجية في شكل عشوائي، والخلل في آلية توزيع الثروة الصينية وضعف آلية تسعير الموارد الطبيعية. كذلك تستند التوقعات المتشائمة التي يتداولها الانحداريون الجدد إلى قضية بوشيلاي وإلى ما رافق هذه القضية من تكهنات بصدد صراع واسع حول السلطة بين زعماء الحزب الحاكم ويهدد النخبة السياسية الحاكمة في بكين والانتقال السلمي للقيادات العليا في الصين. وتمكن الانحداريون الجدد من تحويل هذه القضية إلى مادة دسمة لشن حملات التشهير ضد الصين خصوصاً أنها شملت عناصر ترضي نهم الإعلام العالمي إلى الأنباء المثيرة مثل مقتل رجل الأعمال البريطاني، واحتمال علاقته بأجهزة التجسس ودور زوجة بوشيلاي في هذه الجريمة. ما يميز توقعات الانحداريين القدامى عن توقعات الانحداريين الجدد أن الأولى كانت تتسم بالجدية العلمية، فالذين قاموا بها، وفي مقدمهم بول كنيدي، كانوا مجرد أكاديميين شبان لفتت انتباههم الملاحظات المعرفية والفكرية البحتة ولم يتوخوا من ورائها هدفاً سياسياً مباشراً. أما توقعات الانحداريين الجدد فإنها تفتقر إلى الجدية وإلى الدقة. فما جاء في تقرير البنك الدولي ليس بخافٍ عن المسؤولين الصينيين. بالعكس هم يتحدثون عنه باستمرار وعلناً ويعملون على معالجته مع أصحاب الاختصاص في الصين وخارجها، هذا مع العلم أن البنك الدولي يتوقع أن تتمكن بكين من معالجة هذه الظواهر السلبية التي يمكن أن تؤثر في الصعود الاقتصادي للصين. أما حصول انفجار في الصين على شاكلة ما حصل في الاتحاد السوفياتي فهو مستبعد لأن المجتمع الصيني لا يتسم بالتنوع الإثني والديني كما كان الأمر في الكيان السوفياتي. أما قضية بوشيلاي فإنها لم تؤثر، على رغم كل العناصر الدرامية فيها، في التحضير للمؤتمر الصيني ولا على أعماله ولا على نتائجه. وما يفتقر إليه الانحداريون الجدد في نظرتهم إلى مستقبل الصين، يفتقرون إليه أيضاً في نظرتهم إلى مستقبل الولاياتالمتحدة. فالقوة العظمى لا تخسر مكانتها الدولية لأنها لا تملك القوة، بل لأن هذه القوة تمارس في الكثير من الأحيان خارج الشرعية الدولية، كما وصفها الأمين العام السابق للأمم المتحدة كوفي أنان. فقبل الصراع على الاستحواذ على المواقع الجيوسياسية والثروات الطبيعية وعلى المكانة العالمية هناك الصراع على العقول. في هذا الصراع حقق الأميركيون إنجازاً مهماً لمصلحة بلادهم حينما جددوا رئاسة باراك أوباما. ولكن هذا بعض الطريق إلى مخاطبة العقول وإقناعها. القسم الأكبر من هذا الطريق يتمثل فيما تقدمه الولاياتالمتحدة للآخرين من أجل إقناعهم بصواب سياستها ومقاصدها وهذا ما لم يفعله أوباما حتى الآن. وبالمقارنة بينه وبين الزعامة الصينية الراحلة أو المقبلة، فإن الحكم سيكون لمصلحة بكين وليس واشنطن. صحيح أن الصين احتلت التيبت. أما الولاياتالمتحدة فإنها تكاد تحتل المنطقة العربية بأسرها، وتشجع فيها على سياسة القهر والإذلال والاستيلاء على الثروات الطبيعية. هذا الاحتلال هو أقصر طريق إلى خسارة معركة كسب العقول العربية. * كاتب لبناني