تأخر الأميركيون في السنوات الأربعين الماضية لإدراك تدهور أحوال منافسيهم الأجانب. اعتقدوا في السبعينات بأن قامة الاتحاد السوفياتي عالية، تبلغ عشرة أقدام وتزيد، رغم ان الفساد وانعدام الفاعلية كانا يعملان تدميراً في العناصر الاساسية لنظام شيوعي متهالك. وفي أواخر الثمانينات، خشوا من ان تسيطر اليابان اقتصادياً على الولاياتالمتحدة، رغم ان رأسمالية محاباة (الأقارب والأصدقاء) وجنون المضاربة والفساد السياسي... كانت كلها ظاهرة للعيان على امتداد الثمانينات، ما أدى الى انهيار الاقتصاد الياباني في 1991. هل أصاب المرض عينُه الأميركيين عندما وصلت المسألة الى الصين؟ الأنباء الأخيرة الآتية من بكين تشير الى الضعف الصيني: تباطؤ مستمر في النمو الاقتصادي، فائض من البضائع غير المباعة، صعود الديون الهالكة، انفجار الفقاعة العقارية، وصراع مرير على السلطة في القمة مترافق مع فضائح سياسية لا تنتهي. العوامل الكثيرة التي غذّت نهوض الصين - كتوافر العنصر السكاني وإهمال البيئة واليد العاملة الرخيصة جداً - تتناقص، أو تكاد تختفي. بيد ان التراجع الصيني لم يُسجَّل عند النخب الأميركية، ناهيك عن الجمهور الأميركي. فإعلان الرئيس باراك أوباما نقل «نقاط الارتكاز إلى آسيا» في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، اعتمد على الصعود المتواصل للصين، حيث قالت وزارة الدفاع (البنتاغون) إن حوالى ستين في المئة من اسطول البحرية سيكون متمركزاً في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، وتدرس واشنطن ايضاً نشر أنظمة مضادة للصواريخ محمولة بحراً في شرق آسيا، في خطوة تعكس القلق الأميركي من قدرات الصين الصاروخية المتنامية. وفي الطريق الى الانتخابات الرئاسية الأميركية في السادس من تشرين الثاني، شدد الديموقراطيون والجمهوريون معاً على قوة الصين البادية للعيان، لأسباب تتعلق بالأمن القومي والنفعية السياسية. فالديموقراطيون يستخدمون قوة نمو الاقتصاد الصيني للدعوة الى مزيد من الاستثمار الحكومي في التربية والتكنولوجيا الخضراء. وأواخر آب (أغسطس)، أصدر «مركز التقدم الأميركي» و «مركز الجيل المقبل»، وهما مركزا بحوث يميلان الى اليسار، تقريراً يتوقع ان يكون لدى الصين مئتا مليون خريج جامعي بحلول عام 2030، ويرسم (بعد أن يتكهن كذلك بتقدّم الهند في بناء رأسمالها البشري) صورةً قاتمة للتراجع الأميركي، ويطالب بأعمال حاسمة. أما الجمهوريون فيبررون زيادة الإنفاق الدفاعي في هذه الفترة التي تشهد عجزاً شديد الارتفاع، جزئياً بالإحالة الى استمرار نمو قدرات الصين العسكرية مع توسع اقتصادها. والفاصل بين المشكلات التي تتكون في الصين وبين ما يبدو تكهناً راسخاً بقوتها، ما زال مقيماً، رغم ان وسائل الإعلام الأميركية تغطي الصين تغطية سليمة، خصوصاً لناحية عناصر الضعف الداخلية. أحد التفسيرات لهذا البون بين المعطيين، هو أن النخب والأميركيين العاديين ما زالت معلوماتهم فقيرة عن الصين وعن طبيعة التحديات الاقتصادية التي ستواجهها في العقود المقبلة. التباطؤ الاقتصادي الصيني الحالي ليس دورياً، ولا هو ناجم عن ضعف الطلب الخارجي على السلع الصينية. فعِلل اقتصاد الصين أعمق من ذلك بكثير: إنها في تبديد دولة متغطرسة رأس مالها، وفي الضغط على القطاع الخاص، وانعدام الفاعلية داخل النظام، والنقص في التجديد، وفي نخبة حاكمة جشعة همها الوحيد ان تغتني وتدوم امتيازاتُها، وقطاعٍ مالي يفتقر التطوير افتقاراً مخيفاً، وتصاعد الضغوط البيئية والسكانية. ولكن، حتى بالنسبة إلى من يتابعون احوال الصين، فإن الحكمة السائدة تقول إنه رغم دخول الصين مرحلة قاسية، فإن أُسسها ما زالت قوية. وتتأثر التوقعات الداخلية للأميركيين بالكيفية التي يرون فيها منافسيهم، وليست مصادفة أنه في حقبة السبعينات وأواخر الثمانينات، عندما فوَّت الأميركيون الانتباه الى علامات تراجع منافسيهم، تزامَنَ ذلك مع عدم رضا شديد على الأداء الأميركي (خطاب الرئيس جيمي كارتر المعروف ب «خطاب الإنهاك» على سبيل المثال، عام 1979). واليوم، وبينما ينخفض معدل النمو من عشرة في المئة الى ثمانية في المئة سنوياً (حتى الآن)، تبدو الصين في حالة ممتازة مقارنة بأميركا التي يقبع معدل النمو فيها دون الاثنين في المئة، ويحافظ معدل البطالة على مستواه فوق الثمانية في المئة. وفي نظر أميركيين كثر، قد تكون الامور سيئة هناك، لكنها أسوأ بكثير هنا. وللأسف، فإن للفجوة بين النظرة الأميركية الى قوة الصين وبين حقيقة الضعف الصيني تبعاتٍ سلبية. فستستخدم بكين الرطانة (الأميركية) المعادية للصين وتعزيزَ الموقع الدفاعي الأميركي في شرق آسيا، كدليلين متينين على عدم رغبة واشنطن في الصداقة، وسيلوم الحزب الشيوعي الولاياتالمتحدة في صعوبات الصين الاقتصادية والانتكاسات الديبلوماسية. يمكن نزعةَ العداء للأجانب أن تصبح مكسباً في يد نظام يصارع في أوقات صعبة من أجل البقاء. لذا يحمِّل صينيون كثر منذ الآن، الولاياتالمتحدة المسؤولية عن التصعيد الأخير في نزاع بحر الصين الجنوبي، ويعتقدون بأن واشنطن شجعت هانوي ومانيلا على سلوك سبيل المواجهة. ولا يزال مبكراً إسقاط قدرة الحزب الشيوعي على التكيف والتجدد من الحساب، فبإمكان الصين ان تستأنف الزئير في الاعوام القليلة المقبلة، وعلى الولاياتالمتحدة ألاّ تُغفِل هذه الامكانية. بيد أنه لا يمكن استبعاد تدهور الحزب ايضاً، إذ قدمت الإمارات الحالية لمشكلات الصين أدلةً قيِّمة على تبدلٍ مزلزِل مرجَّح، وسيرتكب صانعو السياسات الأميركيون خطأ إستراتيجياً آخر تاريخيَّ الأبعاد إذا فوَّتوا هذه الأدلة، او أخطأوا في قراءتها. * أستاذ في «كلية كليرمون ماكينا»، عن «فورين بوليسي» الأميركية، 29/8/2012، إعداد حسام عيتاني