ما إن يُذكر اسم ريجيس دوبريه حتى تحضر صورة ذاك المناضل القديم الذي اختار سجن بوليفيا القاسي على بيته الباريسي الهادئ، والذي هجر أفكار أسلافه الأوروبيين ومعاصريه ليلتقي بأفكار الشاعر نيرودا وصديقه الرئيس التشيلي آلاندي الثورية، والذي زهد باستقراره فالتحق بتشي غيفارا ليشاركه في حروبه المناصرة للمستضعفين في العالم. أن تلتقي فجأة بهذا المناضل العتيق والمفكّر الكبير والفيلسوف والروائي والأكاديمي والميديولوجي تنبثق في ذهنك عشرات الأسئلة عن حياته وذكرياته وأفكاره ومؤلفاته، لكن الوقت المُعطى إليك يبقى أقل بكثير من الوقت اللازم لمحاورة شخص في حجم ريجيس دوبريه الذي حضر إلى لبنان بمناسبة الذكرى العشرين لصالون الكتاب الفرنكوفوني في بيروت، بصفته عضواً في أكاديمية «غونكور» الفرنسية، ضيف شرف الصالون لهذا العام. عالجت قضايا الدنس والقدسية في كتابات كثيرة. هل تعتقد أن العلمانية الغربية لعبت دورها في تقليص هامش المُقدسّات في العالم؟ - ما هو المقدس؟ طبيعة الكلمة تُعبّر عنه. إنه كلّ ما نُقدّسه نحن، والتقديس هنا بمعنى تبجيله وعدم المسّ أو حتى السماح بالمساس به. وهنا يجب ألّا نخلط بين «الإلهي» و «المُقدّس»، علماً أن الإنسان نفسه هو من يصنع القدسية ويصبغها على هذا الأمر أو ذاك. والمقدسات ليست بالضرورة متعلقة بأفكار معينة أو معتقدات دينية محددة، ففي أوروبا ثمة أماكن مدنية تُمنح قُدسية أكثر من أي كاتدرائية أخرى، فيُمنع الدخول العشوائي إليها، ويُلزم من يدخلها بالتمسّك ب «بروتوكول» معين يقتضي بارتداء زيّ خاص أو الحرص على التصرّف بطريقة معينة، قد لا يُلزم بها من يدخل كنيسة «نوتردام» التي أصبحت مزاراً سياحياً من الطراز الأول. ويمكن أن تُصبح شخصية غير دينية بل مناهضة لفكرة الدين، شخصية مقدّسة في نظر مجتمعات معينة كما هي حال ماركس بالنسبة إلى الشيوعيين مثلاً أو لينين وماو تسي تونغ، اللذين تُحتم عليك زيارة ضريحيهما المرور السريع من أمامهما والصمت وعدم التصوير... من هنا، أقول إنّ المُقدّس هو كلّ ما تُضفى إليه قدسية تجعله مُحاطاً بهالة وحدود لا يُمكن تجاوزها. فالموت هو أيضاً من الأمور المقدسة وأكثر مكان يُشعرنا بذلك هو المقابر التي غالباً ما يحضر فيها الصمت والرهبة. أنت تُميّز بين الإلهي (بمعنى السماوي) والمُقدّس، ما يعني أنّ هذا المُقدّس قد يكون قابلاً للتغيير. صحيح؟ - بالتأكيد. فأنا غالباً ما أقول إنّ لا مقدس دائماً، وإنما المقدس دائماً موجود. فمقياس المقدسات يتطور ويتبدّل مع الوقت. «الإلزاس واللورين» على سبيل المثل كانتا في فترة من الفترات، مع ثلاثة أجيال إلى الوراء، من المقدسات التي لا يُسمح المسّ بهما في فرنسا، ولكن لم تعد هي الحال اليوم لتغيّر الظروف والأسباب. الغابات مثلاً هي اليوم من المقدسات في ألمانيا وقد لا تبقى. الجسد كان من المقدسات في مجتمعات غابرة ثم لم تعد هذه حاله، إلّا أنّه ظلّ كذلك في مجتمعات أخرى. كانت الأديان سبباً في حروب كثيرة حصلت عبر التاريخ. ولكن، هل يُمكن المُقدّس، وفق مفهوم ريجيس دوبريه، أن يكون أداة للقتال أيضاً؟ - نعم، لأنّ «المقدس» في وجه من وجوهه هو حدود لا يُسمح بتجاوزها، وإن تمّ هذا التجاوز سيُشكّل حتماً صراعاً. إذا أردنا أن نُبسّط هذا الأمر من خلال شاهد معاصر، أعطي مثلاً على ذلك الصراع الذي حصل على ملعب كرة القدم في مباراة نهائي كأس العالم عندما قام لاعب بشتم لاعب آخر بأمه أو أخته، فما كان من اللاعب «العربي الأصل» - زين الدين زيدان - إلّا أن ضربه وخرج من المباراة الأهمّ في حياته وحياة فريقه دفاعاً عن مقدّساته التي انتقلت إليه بفعل التربية التي نقلت إليه المقدسات العامة. وأحياناً يموت شخص ما دفاعاً عن قضيته المقدسة. وإذا أردنا أن نوسّع الصورة أكثر، نأخذ سياسة الولاياتالمتحدة مثلاً. فأميركا هي من البلدان التي لا يُمكن أن تقوم من دون أعداء، وقد اتخذت عبر التاريخ أعداء كثراً، واليوم أصبح الإسلام عدوّها، لذا فإنها تعمل على المسّ بمقدسات هذا الدين لتخلق ردود فعل تُكرس العداوة في ما بينهما. وهنا يتحول «المقدّس» أيضاً إلى أداة للصراع والقتال. ذكرت في معرض حديثك كلمة حدود، وأنت من أكثر الكتاب اهتماماً بهذا الموضوع. ألا تعتقد أنّ الحدود يُمكن أن تكون نفسية أكثر من كونها جغرافية؟ - لا شك في أن الحواجز النفسية هي أكثر تعقيداً، وأنا طالما ذكرت أن الحواجز ليست مادية أو جغرافية بمعنى أنّها لا تتمثّل بخط فاصل نتجاوزه للعبور من دولة وأخرى، بل هي حدود ترسمها الهوية واللغة وغيرهما. مناضل قديم، فيلسوف، كاتب، روائي، مختص في علم الصورة والإعلام... أنت هذا كلّه وأكثر، فهل يصحّ فيك القول، على صعوبة تصنيفك، إنك الكاتب العابر الحدود؟ - جميلة هي التسمية، وهي فعلاً تليق بي لأنني أشعر أحياناً بأنني أكثر من شخص. لست شخصاً بهوية واحدة، إلى حدّ أشعر معه بأنّ كان عليّ ألّا أوقّع كل أعمالي باسم واحد، بل بأكثر من اسم. ففي داخلي حدود كثيرة أجتازها كل مرة في كل مجال من المجالات التي عملت وأعمل بها. فأنا من الذين يهتمون بمسألة الحواجز أو «الحدود» وأحبها لأنها تثير الفضول والمعرفة، لا سيّما أن مفهوم الحاجز بالنسبة إليّ يحوي غنًى وتفاعلاً، على عكس ما يعتقد بعضهم، لأنه ليس كالحائط الذي يسدّ كل ما يأتي إليه، بل هي حدود يمكن أن تجتازها لتنتقل من عالم إلى آخر، ومن معرفة إلى أخرى في إطار الأخذ والردّ. وهنا، يُمكننا أن نأخذ إسرائيل مثلاً، فالإسرائيليون يتحدثون دائماً عن حدود إلّا أنهم لا يكشفون عن حجمها لأنّ الحدود التي يقصدونها في أنفسهم (من النيل إلى الفرات) هي غير تلك التي يعترفون بها أحياناً مُجبرين أمام الناس. لذا، تبقى مسألة الحدود من الممنوعات في المجتمع الاسرائيلي. طرحت قضية الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي في أكثر من كتاب، كيف تنظر إلى هذه القضية في مهبّ الأحداث العربية المستجدة؟ وما السبيل إلى حلّ هذه الأزمة التي صار عمرها أكثر من 65 سنة، من وجهة نظرك كديبلوماسي ضليع بالعلاقات الخارجية ومفكر ومناضل شيوعي قديم له تاريخه؟ - هذا السؤال لم يهتدِ إلى الإجابة الشافية عنه كبار الديبلوماسيين في العالم منذ عقود طويلة. ولكن، من وجهة نظري الخاصة أعتبر أن الحلّ لا يأتي إلّا من الدول العربية القوية نفسها. فإسرائيل بلد قوي ومدعوم من أقوى دول العالم وعلى رأسهم أميركا، لذا فإن الحقوق ستبقى إلى جانب الإسرائيلين والعالم كلّه في صفهم. أما الفلسطينيون فهم للأسف ضعفاء ولن يجدوا من يقف معهم إلّا إذا أرادت الدول العربية القادرة الوقوف ندّاً للندّ مع إسرائيل من خلال مواجهة أميركا بالثروة التي يملكونها. «ميديولوجيا» تيار فكري أسّسه ريجيس دوبريه. ماذا يعني؟ وهل هو علم جديد؟ - غاية الميديولوجيا الجوهرية هي توضيح غموض - وأسرار ومفارقات - عملية نقل الثقافة. والميديولوجيا تجتهد لتفسير كيف أن القَطع أو التمزّق في منهجيات النقل والانتقال يُمكن أن ينتج طفرة في العقليات والسلوكيات، وعلى العكس، كيف يُمكن تقليداً ثقافياً أن يخلق، أو يُعدّل، أو يستوعب الابتكار التقني. والميديولوجيا ليست عقيدة وليست علماً جديداً، على رغم ميل بعضهم إلى تصنيفها ضمن هذا الإطار. ولكن، هي قبل أي شيء وسيلة لتحليل - ونقل - المعلومات التي ترتكز على تفاعلات «التقني - الثقافي» وما يُسمى أشكال الحياة الاجتماعية كالدين والفن والسياسة والمواضيع الأخرى الأكثر تواضعاً من الحياة المادية (التافه - السطحي - المُعتاد).