بغضّ النظر عن المزايدات الكلامية الطاعنة بالمجتمع الفلسطيني، والتي تفوه بها المرشح الجمهوري ميت رومني في إطار نقده للتفريط المزعوم من الرئيس باراك أوباما بأمن إسرائيل وديمومتها، ومن دون اعتبار للتنافس البياني بين المرشحين لإشهار الالتزام بالعلاقة المميزة مع إسرائيل، فالموقف الأميركي من القضية الفلسطينية هو عينه لم يتبدل منذ أمد بعيد، وهو قائم على تعاطف حميم مع الحقوق الإسرائيلية ورغبة بتحقيق تسوية عادلة على أساس الدولتين بما فيه مصلحة الإسرائيليين والفلسطينيين على السواء. وفي ما يتعدى الموقف الأميركي الثابت، فإن احتمالات التقدم تبقى ضئيلة. من القواعد المستفادة من علم الفيزياء والتي يصحّ تطبيقها على المتابعات السياسية مبدأ هايزنبرغ لانعدام اليقين، وهو الذي يفيد في خلاصته أن المراقب، وبفعل المراقبة نفسه، يؤثر على النتائج بشكل لا يمكن معه فصل التأثير عن النتيجة. وكذلك الحال في التواصل السياسي، فالمحاور يلقى من المتفاعلين معه مواقف وإجابات متأثرة حكماً، وإن من دون قصد، بهوية المحاور وشخصه وميوله. وعليه، فالمحاورون العرب للأوساط الثقافية الأميركية ما فتئوا منذ أعوام طوال يسمعون ويستخرجون من الذين يتواصلون معهم ما يطمئنهم إلى أن الاتجاه المتواصل هو نحو فك «القيد الإسرائيلي» على الرأي العام في الولاياتالمتحدة. وكلما لاحت بوادر تغيير ما، تفاءلت الكثرة في الثقافة العربية بأن هذا التغيير سيحقق الانتقال النوعي بعيداً عن القبضة الإسرائيلية اليهودية الصهيونية الممسكة بالحكم أو المال أو الإعلام، أو بها جميعاً. تكفي مراجعة القراءات الحماسية يوم توقع العديد من المتابعين العرب فوز الرئيس السابق جورج دبليو بوش عام 2000، وهو الصديق الأكيد للقيادات العربية وابن من وقف في وجه سياسة الاستيطان، ودفع ثمن هذا الموقف (وفق التحليل الاختزالي بل الاعتباطي لعدم تمكن والده الرئيس جورج بوش من الفوز بولاية ثانية عام 1992). وبعد أن تخلف جورج دبليو بوش عن تحقيق المرجو منه، عاد الحماس إلى البروز مضاعفاً مع ترشح باراك حسين أوباما للرئاسة عام 2008، إذ جرت قراءة اسمه وخلفيته وتاريخه بما يجعله أقرب ما يكون إلى تحقيق الانعتاق الذي يسمح للولايات المتحدة بأن تجاهر بما هي عليه من نفور مزعوم من إسرائيل وتأييد للحق الفلسطيني. لا بل بعدما لم يصدر عن أوباما ما يبرر التفاؤل، جاءت ممارساته وأقواله لتشكل إسرافاً جديداً في التأييد لإسرائيل، لكن الحماس في أوساط عربية عديدة لا يزال قائماً انطلاقاً من قناعة متجددة بأن أوباما في ولايته الثانية سيكون أكثر حرية للتعبير عن صدق مواقفه إزاء فلسطين وإسرائيل. والقراءة الاختزالية التي تسقط الانهماك العربي بالدور الإسرائيلي على سياسة الولاياتالمتحدة محصّنة: فالفشل المتكرر في الحصول على النتائج المرجوة، رغم وفرة المعطيات الواعدة (أهوائياً والمبالغ فيها واقعياً)، لا يفسّر على أنه فساد في القراءة، بل دليل إضافي على إحكام السيطرة للأطراف المؤيدة لإسرائيل على الواقع الأميركي. بل ثمة تحصين مضاعف يعتبر أن التنبيه إلى وهن القراءة يندرج في إطار التمويه الخادم لهذه السيطرة. ومع توالي القراءات الموضعية التي تبتدئ بوعود مفترضة وتنتهي بخيبات أمل، تتشكل سردية متينة ترى سجالاً ومنافسة، إما بين مجتمع تواق للحرية كاره لإسرائيل متعاطف مع الفلسطينيين وبين نخبة فاسدة مفسدة، أو بين مجتمع مغسول الدماغ تتحكم به هذه النخبة وبين الحق الفلسطيني المطموس عنه. وفي الحالتين، تفترض القراءة العربية توافقاً ضمنياً في منظومة القيم بين المحيطين العربي والأميركي، فتجتهد في تفسير تخلف المجتمع في الولاياتالمتحدة عن الالتزام بهذه المنظومة، وتأتي بالتالي بإحدى النتيجتين: إما هو مضلل، وإما مقموع. والأقرب إلى الواقع أن المجتمع الأميركي لا مضلل ولا مقموع، وتأييده لإسرائيل وقناعته بالحق الإسرائيلي راسخان رسوخ الإصرار العربي على إثبات الحق الفلسطيني. وموقف المجتمع الاميركي المساند لإسرائيل معزّز بالموروث التاريخي الغربي والديني الإنجيلي، ومدعوم بالصورة الريادية لإسرائيل والتزاماتها السياسية والحقوقية، إلا أنه أساساً نابع من اندراج التجربة الإسرائيلية في إطار منظومة القيم الثابتة في الولاياتالمتحدة، والتي تختلف بجوانب مهمة عن منظومة القيم السائدة في العالم العربي. فما يبدو بديهياً في أهميته من وجهة نظر عربية، أي حق المهجَّر بالعودة إلى داره، وحق المجتمع الفلسطيني بالعدالة إزاء الظلم التاريخي اللاحق به عام 1948، يتراجع في الأهمية أمام حق المقيم في الاستمرار في حياته، وحق المجتمع اليهودي في إعادة التشكل بعد تجاربه التاريخية المريرة. وكما استبطنت الثقافة العربية تفسير هفوات المجتمع الأميركي في تجاوبه مع الحق الفلسطيني، اعتمدت الثقافة الأميركية قراءة موازية في استيعابها لتخلف المجتمعات العربية عن إدراك الحق اليهودي: ففيما البعض في العالم العربي يرى أن التأييد الأميركي لإسرائيل مصطنع وقابل للتبديل، فالقراءة الأميركية السائدة تعتبر أن الاهتمام العربي بالقضية الفلسطينية هو نتيجة الفعل التوظيفي للنخب والحكام، أو أنه دليل تخبط الإطار القيمي والأخلاقي العربي، من حيث غضّ النظر عن مآسٍ أخطر، آخرها في سورية ليس إلا، أو من حيث تبريره لقتل الأبرياء في إسرائيل. والمسألة بين إسرائيل والفلسطينيين من وجهة نظر أميركية هي إذن التوصل إلى تسوية لمعالجة ذيول حرب 1967، لا النكبة. وإذا كانت ثمة تحركات ناقدة لإسرائيل في الولاياتالمتحدة (خارج الهامش العبثي أو العابث)، فإنها في أكثرها الساحق لا تخرج عن الإقرار بالحق الإسرائيلي، وإن اعترضت على ممارسات ما، وتبقى على أي حال في إطار ال 1967، ولا تتعداه إلى 1948. طرفا النزاع، الفلسطينيون والإسرائيليون، على غير عجلة على التسوية إذ كل منهما على قناعة بأن عامل الوقت لمصلحته: أولهما يعول على تبدل في النسب السكانية وثانيهما يغير الوقائع على الأرض. حيال ذلك فإن الرئيس المقبل، سواءً كان أوباما في ولاية ثانية أو رومني في عودة جمهورية، لن يكون لديه حافز للتطرق إلى هذا النزاع. والأرجح أنه سيكتفي بالشكليات التي تؤكد المواقف. والأرجح كذلك أن تشهد الأوساط السياسية العربية دورة جديدة من الآمال غير المبررة والخيبات المحتمة.