أختم اليوم جولة العقل والروح في الطائف، بالأمس تحدثت عن اختفاء موسيقى، اختناق طالبي تعلمها، وإقفال محال بيع آلاتها طوعاً أو كرهاً، في المقابل وجدت عزفاً منفرداً في الممرات الصغيرة خلف شارع البريد، عزفاً منفرداً لسيدات الصحراء شرق المدينة وشمالها، ونساء الجبل جنوبها وغربها، شكّل في نظري «سيمفونية» الإنتاج، وإن كانت بعض أنغامها كادحة، وخلفها قصص كفاح لا تخطئها العين الفاحصة. في محال اشتهرت بها المدينة وهي كثير، يباع العسل الذي يجلبه النحّالون من كل الجبال، ومعه يباع السمن، «الاقط» وهو غذاء جاف مالح يصنع من اللبن، الزبدة، البيض البلدي، واللوز «البجلي»، وبضعة أغذية مشتقة من كل هذا، غالبيتها معّدة بأيدي نسوة البادية والقرى. تقرأ في كيس «الاقط» الصغير، أو إناء السمن القديم، وسلة البيض المنهكة، قصصهن مع محاولات العيش الكريم، يجلبن كل يوم ما استطعن إنتاجه، يبعنه، أو يقايضن به، ويطعمن أنفسهن، وأسرهن، أو يدعمن اقتصاد الأسرة إجمالاً في واحدة من جماليات العرب الباقية، التي نعرفها في مناطق ومدن كثيرة في المملكة. القصة تصبح أجمل عندما يشاركها زوج أو ابن، معترفاً بقدراتها الإنتاجية، تاركاً لها حق التفاوض والبيع والشراء، وتقييم منتجها، ثم تاركاً لها حق التصرف في إيرادها بما يحقق رغبات أنثى، أو حاجات صغارها. عندما ترى سيدة هي غالباً كبيرة في السن، تعض لثامها بأسنانها، وتحمل فوق رأسها قدراً، تعلم أنها تحمل السمن، وإذا كانت تحمل بين يديها كيساً أو قفصاً فهي تحمل البيض البلدي، وإذا كبر كيسها فهي تحمل «الاقط» وهكذا دواليك، تستطيع، إن كنت صاحب دكان أو حتى صاحب حاجة، إلقاء التحية عليها وسؤالها عن بضاعتها، في صورة بشرية عادية افتقدناها في الأماكن والمواقع التي يفترض أن تكون أكثر تحضراً، وأكثر إنسانية. واصل السير بين هذه الدكاكين، لتشتم رائحة البدو والحضر، الحليب والماشية، النحل والعسل، الدجاج والبيض، رائحة ثقافتك التي توارت خجلاً، ولم يستطع المنظّرون أن يرتكزوا عليها لتطوير فكر إنتاجي عائلي يصنع اقتصاداً صغيراً يبعد الكثيرين عن الوظائف التي ربما صنعت الفقر أكثر من الغنى، أو لتطوير فكر سياحي يجعل من مثل هذه الدكاكين وهذه التجارة البسيطة الإنسانية مزاراً سياحياً يرى من خلاله العالم جزءاً من اقترابنا من الأرض، وأجزاء مبهجة من نماذج الأمهات العظيمات اللاتي وضعن الضباط والمهندسين والأطباء والأساتذة (من الجنسين) على مكاتبهم ببيع السمن و«الاقط» وبيض دجاجاتهن. إنهن على طريقة الموسيقيين يمارسن عزفاً منفرداً منذ عقود، ولعلنا نصنع منهن جوقة تعزف الإصرار والحنان والاعتداد. [email protected] @mohamdalyami