لا يعتقد مسؤول بارز في السفارة الأميركية ببغداد أن متغيرات واضحة يمكن أن تطرأ على سياسة بلاده تجاه العراق بعد حسم ملف الانتخابات الرئاسية، فواشنطن في النهاية تمتلك مجسات لقياس المصالح قد لا ترتبط جوهرياً بشخصية الرئيس الجديد. وتلك إلى حد ما رؤية مفهومة في سياق الديبلوماسية الأميركية وخطابها المعلن، لكن ما يفهمه العراقيون مختلف تماماً، وعلى أساس ذلك ينقسمون بين مؤيد لاستمرار منهج باراك أوباما الذي نفذ خطة الانسحاب الكامل من العراق ودعم الحكومة العراقية بمراحل مختلفة، وهؤلاء يمثلون في الغالب الخط الحكومي، وبين آمل بتغيير في الإستراتيجية الأميركية يحدثه ميت رومني يسمح بأن تمارس واشنطن المزيد من الضغط على بغداد لتغيير سياساتها الداخلية، ويتصدرهم معارضو رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي. وعلى رغم أن وقائع الانتخابات الأميركية واستطلاعات الرأي تشير إلى أن أوباما سيكون الأوفر حظاً في نيل الولاية الثانية، فإن بعض الأطراف العراقية ومنها مقربة من الحكومة لا تستبعد أن تكون فترة أوباما الثانية مختلفة عن سابقتها في ضوء احتمالات حدوث تغيير في نمط علاقة الإدارة الأميركية مع العراق على خلفية بروز تقاطع في المواقف بين البلدين أخيراً في قضايا التسلح والموقف من سورية، والعقوبات الدولية ضد إيران. ويمهد المسؤول الأميركي الذي تحدث إلى «الحياة» لهذا الاحتمال بالقول إن «واشنطن كانت تعتقد أن تطبيع علاقاتها مع إيران يمكن أن يساهم في حل الكثير من المشكلات العراقية، وتهدئة الصراع الإقليمي، لكنها (الإدارة الأميركية) حاولت مراراً أن تفتح قنوات اتصال مع الإيرانيين، على الأقل في ما يخص الموضوع العراقي، وطهران أغلقت أبواب الحوار مراراً وبدت في كثير من الأحيان مصرة على إثارة الأزمات وإدامتها». يحاول المسؤول الأميركي استخدام اكثر العبارات حياداً في مناسبة الحديث عن مستقبل العلاقات الأميركية - العراقية، لكنه يشير من باب الغمز إلى أن «واشنطن لم تكن تتوقع أن المالكي سيكون بهذه القوة(...) فوجئنا بقوة المالكي في العراق». ولا يمكن على أية حال فهم مصطلح «القوة» في ما إذا كان المقصود به «مديحاً» أو «ذماً»!. لكن مسؤولاً كردياً بدا متحمساً لاحتمالات عودة الجمهوريين إلى البيت الأبيض، يروي أن رئيس إقليم كردستان مسعود بارزاني كان وضع أمام أوباما في زيارة قبل شهور كل ملابسات الأزمات العراقية، وذكره بالالتزامات الأميركية تجاه إقليم كردستان، وأبدى استياء من محاولات أطراف في إدارته وضع كل البيوض الأميركية في سلة المالكي. لكن بارزاني(حسب المسؤول الكردي) لم يعد من واشنطن بنتائج واضحة، ولم يستمع إلى أفكار أميركية تخص مستقبل الديموقراطية في العراق اكثر من العبارات التي يتداولها المسؤولون الأميركيون في خطاباتهم الإعلامية. وليس سراً أن أطرافاً سياسية وثقافية داخل العراق وخارجه تعتقد أن إدارة أوباما لم تسحب قواتها العسكرية من العراق فقط، بل انسحبت بالدرجة الأساس من وعودها بدعم الديموقراطية في هذا البلد، وأنها في نهاية المطاف سمحت لإيران بالفوز مرتين، مرة بإحداث تغيير في خريطة إقليمية معقدة أصبحت إيران لاعبها الأكبر، ومرة أخرى عبر التسليم بأن النفوذ الإيراني بنزعته الراديكالية «تسرطن» في العراق إلى درجة يصعب معها معالجته حتى بالنسبة للقوة الأولى في العالم. في مقابل ذلك ترفض جبهة سياسية عراقية واسعة مكونة في الغالب من الأحزاب الشيعية هذا الطرح، وتؤكد أن أوباما لم يكن أمامه خيار آخر سوى تطبيق الاتفاق الأمني الاستراتيجي الذي وقعه جورج دبليو بوش من قبله، وأن الولاياتالمتحدة حصلت على اكثر من المتوقع من دولة احتلال في حال انسحابها، فشيدت إحدى اكبر سفاراتها في العالم داخل بغداد، واحتفظت بخصوصية في علاقاتها مع المؤسسات العراقية وقوى الأمن والجيش، وتمكنت من حماية جنودها من الملاحقات القضائية العراقية، وأكثر من هذا، كما يقول مقرب من الحكومة العراقية فإن واشنطن كثفت أخيراً اتصالاتها لإعادة نحو 15 ألف خبير في مجالات مختلفة إلى المؤسسات الوزارات العراقية، وإن هذا الطلب الذي يمثل جوهر الاتصالات والزيارات الأميركية المتكررة إلى العراق في الأسابيع الماضية، مازال موضع مناورة من الحكومة العراقية التي لا تمتلك القوة الكافية لرفضه. والحقيقة أن الزيارات التي نفذها مسؤولون وديبلوماسيون وعسكريون أميركيون خلال الشهور الستة الأخيرة إلى بغداد بلغت نحو 50 زيارة، بعضها معلن وآخر لم يتم الإعلان عنه، وإن تلك الزيارات حسب ما متوافر من معلومات لم تكن القضية السورية محورها الأساسي، كما ورد إعلامياً، بل رغبة أميركية تبدو ملحة في العودة إلى العراق من بوابة «الاتفاق الإطاري» غير المفعل بشكل واضح حتى اليوم. والمعلومات الأخيرة تثير تساؤلات جديدة، عن الدوافع التي تجبر واشنطن على تغيير نمط علاقتها مع العراق بعد اقل من عام على انسحاب قواتها من هذا البلد، إذا أخذنا بالحسبان أن سجلات السفارة الأميركية ببغداد تشير إلى أن المسؤولين الأميركيين رفعوا ابتداء من النصف الثاني من العام الحالي معدلات زياراتهم إلى بغداد بواقع ثلاثة أضعاف عن النصف الأول من العام نفسه. وما يربك الحسابات والتحليلات الأولية أن الإدارة الأميركية قررت بالتزامن مع هذا الزخم السياسي الأخير، تقليص انتشار موظفيها ومستشاريها في المدن العراقية بشكل لافت، فأغلقت بلا إعلان مسبق قنصليات ونقلت ممثلين لها من عدد من المدن أبرزها كركوك، التي غادرها ممثلو القنصلية والموظفون وفوج عسكري للحماية إلى القنصلية الأميركية في إقليم كردستان ب «حقائبهم الشخصية» كما يقول احد موظفي قنصلية كركوك التي كانت تقع ضمن مطار المدينة. وبصرف النظر عن دلالات التحركات الأميركية، فإن مسألة أخرى بدت اكثر وضوحاً ربما تساعد في تحديد ملامح الاستراتيجية الأميركية في العراق ما بعد نهاية العام الحالي. فعلى رغم تأكيد ناطق باسم البيت الأبيض إبرام عقود تسليح بقيمة 12 بليون دولار مع العراق بضمنها صفقة طائرات أف 16 المثيرة للجدل ، وإن «العلاقة بين البلدين استراتيجية وعميقة» ، فإن كبار المسؤولين في حكومة بغداد يشككون في نية واشنطن منحهم الأسلحة التي تم التعاقد عليها وخصوصاً الطائرات الحربية. ويصر سياسي مقرب من رئيس الحكومة بدوره على أن توجه المالكي إلى روسيا لأغراض إبرام صفقات سلاح كان بعد استشارات واسعة النطاق مع الجانب الأميركي الذي ابلغ العراقيين أن مواعيد تسليم الأسلحة «سوف تتأخر لأسباب فنية». وبالطبع يعتقد المصدر أن «أسباباً سياسياً» تقف خلف تلكؤ واشنطن في تمرير السلاح إلى بغداد، وأن تلك الأسباب تخص بالدرجة الأساس استمرار الشكوك بطريقة استخدام بغداد لأسلحتها المتطورة وخصوصاً الطائرات، في أجواء تأزم إقليمي لا يستثني نشوب نزاعات مسلحة، متهماً بدوره أطرافاً عراقية مثل بارزاني وعلاوي بتعميق تلك الشكوك. بعبارة أخرى، فإن واشنطن فضلت منح المالكي الضوء الأخضر للتسلح من روسيا، على أن تلتزم بمنحه في هذه المرحلة إمكانات تسلح لا تمتلكها سوى دول محدودة في المنطقة، وبالطبع لا تمتلكها إيران. وربما يمكن للتأويل فقط استدعاء حديث المسؤول في السفارة الأميركية عن «قوة المالكي» ... فهل كان يقصد أن المالكي بات اكثر قوة من منحه سلاحاً أميركياً فتاكاً وحاسماً في أية معركة إقليمية متوقعة؟ أم أن المقصود أن قوة المالكي قد تقود إلى استخدامه السلاح ضد نظرائه العراقيين؟. وفي العموم فإن الحقيقة الوحيدة التي يمكن الركون إليها بصدد صفقات التسلح الروسية أن واشنطن لم تفاجأ بها، وربما شجعت عليها بطريقة أو أخرى. تلك الحقيقة لا تقود في نهاية المطاف إلى الجزم بحصول تغيير دراماتيكي في سياسة واشنطن تجاه بغداد، لكنها تأتي في سياق خطاب أميركي اتخذ منحى اكثر حدة خلال الحملات الرئاسية الأخيرة، بل إن انتقاد السياسة الأميركية في العراق والمطالبة بتدقيق وضع الالتزام العراقي بالقوانين الدولية بشأن العلاقة مع إيران والموقف من سورية، وحسم الخلافات الداخلية، والتي تبناها معسكر المرشح الجمهوري، ظهرت متسقة مع تغير لهجة معسكر الحزب الديموقراطي في الشهور الأخيرة بشأن آليات التعامل مع مستقبل العراق. ومع أن مثل تلك القراءة ليست غائبة حتى لدى المقربين من الحكومة العراقية، فإن هؤلاء يعتقدون في المقابل أن الولاياتالمتحدة مازالت بحاجة إلى دعم المالكي، وأن هذا الدعم يمتد إلى عدم الممانعة بتوليه ولاية ثالثة في العراق لأسباب متعددة: - فمن جهة لم تحمل التفاعلات العراقية طوال السنوات السبع الماضية بوادر نشوء زعامات قادرة على منافسة المالكي على موقعه في نطاق فلسفة البقاء للأقوى، فيما التجربة العراقية لا تبدو بمعرض القدرة على إنتاج نظام ديموقراطي رصين في أجواء انقسامات طائفية وعرقية يصعب السيطرة عليها، ومن جهة أخرى فإن الولاياتالمتحدة مازالت بحاجة إلى حاكم يمتلك الصلابة والقدرة على مواجهة الأزمات للتفاهم معه حتى لو كان ثمن هذا الحاكم التضحية بمزيد من الاشتراطات الديموقراطية في هذا البلد. - ومن جهة أخرى فإن واشنطن تعتقد أن الزلزال السوري مؤهل لإحداث ارتدادات هائلة في المنطقة، وأن العراق يتطلب في هذه المرحلة قيادة قادرة على امتلاك زمام المبادرة ومواجهة احتمالات اجتياح الفيضان السوري الحدود العراقية، ومن جهة أخرى فإن العراق بقياداته الحالية يمثل خيط وصل لا ترغب واشنطن في قطعه مع نظام طهران، في ضوء الحاجة إلى ضبط إيقاع الصراع في المنطقة، والتهيئة لاحتمالات اكثر تكلفة في هذا الصراع. في حدود هذه المعادلات فقط يمكن ضرب فرضية تغيير الاستراتيجية الأميركية في العراق، لكنها (المعادلات) نفسها تظهر ميلاً واضحاً إلى التسليم بثبات الظروف العراقية، في وسط إقليمي يتعرض إلى اهتزازات عنيفة. وفي كل الأحوال فإن تصاعد اقتناع الحكوميين العراقيين بخلو الجعبة الأميركية من الخيارات، وبأن معادلة واشنطن - طهران ستبقى قائمة لتدعيم فرضية الحاكم العراقي «القوي» لفترات طويلة، تبدو في غير محلها، بل هي في حال صحت تكشف عن نقص غير صحي في الرؤية الاستراتيجية، تماماً كالقراءة المبتورة التي قادت في نهاية المطاف إلى الزج بالتجربة العراقية ما بعد نهاية حقبة النظام الشمولي في أتون الشكوك الدولية حول جدية العراقيين في تأسيس نظام ديموقراطي تعددي ومتصالح يعتنق مبادئ السلم والأمن الدوليين.