ليس الناظر كالسامع، وليس الذي يده في النار كالذي ينظر إليها، فمن ذاق عرف. لا حصر لأنين غزة، ولا أحد يضع خطة إستراتيجية لحل مشاكلها التي تضرب أذرعتها في كل مكان وعلى كل صعيد، ما جعل الفلسطيني يقول بلسان الحال والمقال: لقد خذلتمونا. إن الفلسطيني الذي تعتبره جميع فصائلنا بأنه الدماء الفتية التي تجري في عروق أجندتهم، يئن الليل والنهار من دون أن يأبه به أحد، باستثناء القليل من رشات المياه على وجهه. حصار وفقر وغلاء فاحش، وتدن في الأجور والمرتبات، وبطالة، وخريجون بلا أمل، وشباب لا مستقبل لهم، وتفسخ مجتمعي، وانهيار أسري، ويأس وإحباط، وارتفاع نسبة المرضى النفسانيين، وهواء ملوث، ومياه ملوثة، فقد حذَّرت الأممالمتحدة من أن إمدادات المياه الجوفية في قطاع غزة تواجه خطر الانهيار، كما حذر تقرير لبرنامج الأممالمتحدة للبيئة (يونيب) في نيروبي من أن الأمر قد يستغرق قروناً لإصلاح الأضرار التي لحقت بالخزان الجوفي للقطاع، ما لم يتمَّ اتخاذ إجراء مناسب الآن... وأفاد «يونيب» بأن ترميم الخزان الجوفي قد يحتاج إلى أكثر من بليون ونصف بليون دولار خلال الأعوام العشرين المقبلة، وكذلك اختلاط مياه الشرب بمياه الصرف الصحي ما يعرض حياة المواطنين للخطر بسبب الأمراض. أما بحر غزة فملوث بسبب مياه الصرف الصحي والنفايات الصلبة، وفقدان الحلول الجذرية لها، وكشفت التحاليل المخبرية التي أجريت على عينات من مياه قطاع غزة في مختبرات مصرية عن نسبة تلوث عالية جداً. وأدى انتشار أكوام النفايات في شوارع غزة إلى جعلها من أكثر بلاد العالم استهلاكاً للأدوية، وليتك تجدها، والمؤشرات الخطيرة الملازمة لأزمة النقص في الرصيد الدوائي تظهر أن الوضع الصحي في قطاع غزة مرشح لمزيد من التدهور الخطير. ومشاكل نقص الوقود وانقطاع الكهرباء متعاقبة، ليأتي الموت من خلال حرائق الشموع، أو من خلال هدم الأنفاق فوق رؤوس شبابنا، وهم يبحثون عن لقمة العيش، تلك الإنفاق التي زادت أصحاب الكروش المنتفخة تكرشاً وانتفاخاً، ففي تقرير لمركز المعلومات الصحية الفلسطيني صدر في أيار(مايو) من العام الحالي بلغ عدد الوفيات نتيجة الحوادث المختلفة في الأنفاق (من 1-6-2006 إلى 31-12-2011) 188 شخصاً. كما يتعرض الناس للموت من طريق برك الصرف الصحي وبرك تجمع مياه الأمطار، وبسبب انفجار مولدات الكهرباء، وما يرهق المواطن من ثمن وقود لتلك المولدات، وتكلفة صيانتها، وما ينتج منها من إزعاج حاد وتلوث بيئي. وحسب إحصاءات لجهاز الدفاع المدني في قطاع غزة فإن كانون الثاني (يناير) الماضي شهد 32 حالة حريق جراء الاستخدام الخاطئ لمولدات الكهرباء، سقط خلالها عدد من الضحايا، وأصيب عدد آخر بحروق واختناق. وبلغ عدد ضحايا انفجار المولدات 16 قتيلاً، وعدد ضحايا الحوادث المنزلية المختلفة التي لها علاقة باستخدام الوقود وأسطوانات الغاز والمولدات منذ عام 2009 أكثر من 75 ضحية. وكذلك الموت الناتج من حوادث الطرق، وبسبب غزو الدراجات النارية، وما تحصده من أرواح بلغ عددها أكثر من 200 مواطن عام 2009، وإصابة أكثر من ألف بعضهم يعاني من إعاقة دائمة. وموت آخر لأهل غزة بسبب السرطان، وتنامي أعداد المرضى بهذا المرض، فعلى لسان مديرة برنامج العون والأمل لرعاية مرضى السرطان، «أن عدد مرضى السرطان في القطاع يبلغ 11 ألف مريض». الاحتلال يقصف ويحاصر، والصواريخ الفلسطينية تخرج من قطاع غزة من دون رؤية سياسية علمية، وصفو حياة الناس يزداد تعكراً... فلا قيمة لصواريخ تُطلق من غزة لا تصيب أحداً من الإسرائيليين في مقابل قتل وجرح العشرات منا. موت متعدد المظاهر والأسباب فاق كثيراً أي ظاهرة في العالم قياساً إلى مساحة قطاع غزة وعدد سكانه. وعاد التكلس القبلي من جديد، وتغلب الانتماء القبلي على الانتماء الوطني، وتفشي الواسطة والمحسوبية، وانتشار ظاهرة النزق في التعامل بين الناس، وعدم قبول الآخر، والنفاق الاجتماعي، وانتشار ثقافة الأنا، والميول العدوانية، والسلوك الخاطئ. لست سوداوياً، ولا أنظر إلى الجانب الفارغ من الكأس، ولست من محبي جلد الذات، فجوانب الخير عندنا كثيرة ومن أهمها التراحم والصمود، والصبر والثبات على كل ويلات الزمن. ولكن ينبغي إعادة النظر في آليات تعاطي قياداتنا مع شعبنا وإلا وقعت الهاوية إن لم تكن قد وقعت بالفعل، فشعبنا ليس رهينة لأحد، وليس شعب إتاوات، ولا هو حقل تجارب لأحد، ولا بقرة حلوباً لهذا وذاك، ومن هنا ندق ناقوس الخطر لمن أراد أن يسمع، ولكل من يعنيه الأمر... ولا بد من أن يكون لجميع أصحاب الرأي والقرار. فليست المهارة في تحرير المخالفات، وفرض الضرائب والغرامات هنا وهناك، ولا المهارة في تبديل السيارات القديمة بالحديثة، ولا بمنع استيراد أنواع من الفاكهة... إنما المهارة في حسن أداء قيادة الشعوب بشفافية وأمانة، والتفاف الجماهير حول قائدها من أجل التغيير نحو الأفضل... وليس من المعقول أن نعلق كل أخطائنا على شماعة إسرائيل والاحتلال، وكأنه لا حراك لنا ولا فعل ولا قدرة ولا إرادة. كل ما سبق لا يمكن أن يؤهلنا لنصر ولا يقودنا إلى تحرير.