كُتب عدد كبير من الدراسات والمؤلفات حول السلطان عبد الحميد الثاني، واختلفت المواقف والآراء حوله، ما بين مشيد بدوره، وبحنكته السياسية، وبين مندد به ومنتقص من قدره ودوره. وذهب القوميون العرب وسواهم، إلى وصفه ب «السفاح»، والطاغية. وهناك من أطلق عليه لقب «السلطان الأحمر»، بالنظر إلى تحميله مسؤولية مجازر ارتكبت ضد الأرمن، وضد من تمردوا على حكمه. والواقع هو أن السلطان عبد الحميد الثاني من أكثر السلاطين العثمانيين إشكالاً وإثارة للجدل، يشهد على ذلك الاختلاف في أراء معظم الدارسين والمؤرخين الذين تناولوا الدولة العثمانية، وخاضوا في مسائل السلطنة والأدوار التي قام بها السلاطين العثمانيين خلال فترة حكم كل منهم. وفي هذا السياق، يأتي كتاب «السلطان عبد الحميد والرقص مع الذئاب»، للكاتب التركي مصطفى أرمغان (ترجمة مصطفى حمزة، الدار العربية للعلوم، 2012)، ليتناول الدور الذي لعبه السلطان عبد الحميد الثاني، الذي اعتلى عرش السلطنة العثمانية من عام 1876 وحتى عام 1909، ومحاولاته التي امتدت طوال ثلاثة وثلاثين عاماً، من أجل بلوغ شاطئ الأمان لدولة حاصرتها الذئاب طويلاً، بخاصة أن الحديث عن تقاسم ميراث «الرجل المريض»، كان متداولاً في الساحة السياسية الدولية، منذ عام 1850، عندما خسرت الإمبراطورية العثمانية حربها مع الروس، الأمر الذي أثار شهية الدول الغربية بتقاسم أقاليمها، بالتزامن مع وصول عبد الحميد إلى عرش السلطنة، ما يعني تغيير خرائط ومصائر أقاليم شعوب الأناضول وشبه الجزيرة العربية وبلاد الشام والبلقان والقفقاس وغيرها. ويبدو أن المؤلف استقى عنوان كتابه من مثل إنكليزي (Howling with the wolves)، يفيد بأنه حين تحاصر الذئاب الجائعة إنساناً في غابة أو جبل، فإنها قد تدعه وشأنه، فقط إذا استطاع العواء مثلها، وتمكن من إقناعها بأنه واحد منها، إما إذا حاول الفرار أو المغامرة بعمل ما، غير العواء، فإنه سيتعرض لهجمتها، ويتمزق بين أنيابها. وعلى مقولة العنوان ينهض متن الكتاب، حيث كانت المسألة الشرقية تثير مخاوف كبرى في أعماق عبد الحميد الثاني ورجال التنظيمات الآخرين في الدولة العثمانية، كونها قدمت دلائل قاطعة على وقوف الإمبراطورية العثمانية على حافة التمزق والانهيار، في مائدة الذئاب التي تحيط بها، منتظرة اندلاع لحظة الصراع للانقضاض عليها وتقاسم أشلائها. وفي ذلك المنعطف الحرج والخطير، وقف عبد الحميد، وحاول أن يتصرف على الأقل كرجل دولة كبرى، محاولاً إقناع ذئاب ذلك العصر على أن الدولة العثمانية ما زالت عظمى، وراح يعمل على حشد جميع الإمكانيات، التي تحول دون انقسام الدولة وتمزقها. ويعتبر المؤلف أن عبد الحميد قام بأعمال ديبلوماسية مدهشة، ومناورات سياسية كثيرة، طيلة ثلاثين عاماً ونيفٍ في تلك الفترة الحرجة من عمر الدولة العثمانية، وتمكن من خلالها أن يحافظ على الجسد الأم لهذه الدولة، وأمّن وصوله إلى الربع الأول من القرن العشرين. من هنا تأتي أهمية ما قام به من تأخير سقوط الدولة العثمانية، وإنقاذها من الموت المحقق طوال أربعين عاماً (من 1878 وحتى 1918). وكان الجانب الاستراتيجي والدهاء السياسي لدى عبد الحميد، يظهران في كيفية التخطيط المدروس للدفاع عن الإمبراطورية المترامية الأطراف، في وقت كانت تتهافت عليها القوى الدولية الكبرى، حيث لم يكن الجيش الانكشاري قادراً على الانتشار في كل مكان، لذلك ركز على تنظيم القوات المحلية ومشاركتها في الدفاع، بغية إطالة أمد المقاومة، الأمر الذي يفسر إصرار عبد الحميد على بناء إمبراطورية جديدة أصغر، تتكون طلائعها من العناصر الإسلامية من أتراك وعرب وأكراد وأرناؤوط وجركس. ويبدو أن المؤلف أراد من إبراز صراع السلطان عبد الحميد ورقصه مع الذئاب، التركيز على تأخير سقوط الدولة العثمانية، وإنقاذها من الموت المحقق أربعين عاماً، بخاصة أن الامبراطورية العثمانية خسرت في الحرب العثمانية الروسية عام 1877 ثلث أراضيها تقريباً، وفي ظل هذه الخسارة أصيب بالهلع معظم أعضاء مجلس الأمة العثماني (مجلس المبعوثان)، الذي كان يتكون من العديد من ممثلي الملل والقوميات، وراح كل منهم يفتش عن سبيل لإنقاذ الجزء الذي تعيش فيه قوميته أو ملته، فتحول المجلس، الذي أنشأ – في الأصل - من أجل توحيد الدولة، إلى سبب في تقسيم الدولة، لذلك أقدم عبد الحميد على تعليق العمل بالدستور وتجميد أنشطة المجلس، كي يحافظ على السلطنة العثمانية. ويعتبر المؤلف أن عبد الحميد اتبع سياسة الإلهاء والإدارة الماهرة للعبة الدول العظمى، أمثال إنكلترا وفرنسا وإيطاليا وروسيا؛ وأحسن استغلال الوقت في تأسيس آلاف المدارس، ومدّ آلاف الكيلومترات من السكك الحديدية، وافتتاح مئات المستشفيات، وتعبيد عدد يستعصي على الحصر من الطرق والجسور والثكنات العسكرية وأبراج الساعات والدوائر الرسمية. والأهم من ذلك كله، إدراكه المبكر للعبة الكبرى التي كانت تحيط بفلسطين. إضافة إلى تمكنه من إعداد سكة الحجاز الحديدية لتكون مشروعاً يفتخر به العالم الإسلامي، حيث خرجت، للمرة الأولى، دولة من غير الدول الإمبريالية، لتبني بنفسها السكك الحديدية، من دون أن تحتاج إلى إذن أو خبراتٍ أو ملازم وأدواتٍ أو تمويل من تلك الدول. ليس هذا فحسب، بل إن المؤلف يعزو تطور الآداب العثمانية المعاصر، أو بالأحرى تمدن الآداب التركية، وتشكلها واكتسابها هويتها المعاصرة، إلى عهد السلطان عبد الحميد، مثل غيرها من مناحي الحياة الأخرى، معتبراً أن ثمة فوارق كبيرة بين الدولة التي استلمها من أخيه، والدولة التي سلمها إلى الاتحاديين، في الشكل المدني للإدارة، وفي حيازة أجهزة حديثة، وفي ارتفاع مستوى التطور التكنولوجي والتعليمي. وتمكن عبد الحميد من قطع الطريق على الدول الأوروبية بإعلان المشروطية، الأمر الذي أجل سقوطه عن العرش العثماني إلى 17 نيسان (أبريل) عام 1909، حيث سقط السلطان عن العرش، بتهمة تأييده المزعوم للتمرد الذي عرف بحركة 31 آذار (مارس) من العام نفسه. ويرى المؤلف أن السلطان عبد الحميد، قام بكل ما ينبغي أن يقوم به أي حاكم مسؤول، فكان عليه أولاً أن يقصي الذئاب، ويوجد لهم مشاكل تشغلهم وتلهيهم، ثم سحبهم بعيداً إلى مسافة لا يمكنهم معها معاودة الهجوم. وكان يدرك أن الحرب التي أجلها؛ إنما كان يؤجلها إلى أجل سيكون بعده أمام حرب لا يمكن تجنبها، ولذلك كان عليه أن ينسج التركيبة المعرفية والروحية التي تهيئ الناس ليكونوا أقوى وأقدر على المقاومة والكفاح، وأكثر معرفة، وأشد تمسكاً بالوحدة، وإدراكاً لمفهوم الوطن وارتباطاً به. والسبيل إلى بلوغ ذلك هو تأمين مرحلة من الهدنة والصلح. ولعل تبعثر الإمبراطورية العثمانية، التي كانت في طريق التمدن، وتمزقها المفاجئ إلى أشلاء في السنوات التسع التالية لعزله عن العرش (1909-1918)، والخسائر الضخمة في هذه المرحلة؛ تظهر ما كان يريد السلطان عبد الحميد الثاني مقاومته وإيقافه. ويمكن القول أن عبد الحميد استطاع بما يملكه من شخصية لا يمكن تجاوزها، وما يمثله من نموذج قيادي، أن يبلغ أيامنا هذه، من دون أن يمحى من الذاكرة. وهو لم يكن السلطان الأخير، بحسب رأي بعض المؤرخين الأتراك، بل هو في الوقت نفسه الإمبراطور الأخير.