الأحد 21/10/2012: شارع المعرض شارع المعرض مطفأ هذا المساء والأعمدة أشباح. لا صوت في المكان والطاولات المرتبة تنتظر عبثاً الموائد والضحكات. كيف المدينة فجأة لا تبقى مدينة، تندرج في غبار الآثار. وحدي في شارع المعرض أتلمس الخطى نزولاً الى ساحة البرلمان. بصيص من النور يسمح برؤية حارس وربما حارسين، هل أخيفهما أم يخيفانني عندما أصل الى المكان الفسيح حول الساعة العملاقة؟ قطة وحيدة تعبر مسرعة. ألتفت اليها ويلتفت الحارسان. نرى بعضنا بعضاً في الضوء الشحيح: ثلاثة رجال وقطة. سلام. هذه بيروت، تتلقى السيارات المفخخة منذ العام 1976 ولا يرسل المجرمون بطاقاتهم. بيروت هذه تسلم نفسها للأشباح ليلة واحدة. هل تتكرر؟ الاثنين 22/10/2012: المثقفون وربيعهم الاختلاف ميزة المثقفين، لأن اتفاقهم، إذا اتفقوا، يعني عضويتهم في حزب واحد يبشرون بأيديولوجيته ويدافعون عنها ظالمة أو مظلومة، لأن الحزب في بلادنا العربية، وربما في العالم الإسلامي، مجرد قبيلة بثياب حديثة. وكم يبدو ساذجاً السؤال عن موقف المثقفين العرب من الثورات في تونس ومصر وليبيا وسورية، فالمتوقع مواقف ثقافية لا موقف واحد، وإن كان المزاج يذهب الى مواجهة الديكتاتورية والاستبداد، ولكن، ليس في سياق كيان وهمي هو حزب الربيع العربي. وقد بدا بعض مثقفي الربيع قساة وذوي مزاج عسكري في إداناتهم المتصلبة، وأحياناً التخوينية، لهذا المثقف أو ذاك ممن لم يسيروا في الخط المرسوم وفضلوا ان تفصلهم عنه مسافة للنظر أو النقد. ويتعامل «المثقفون الثوريون» مع الحدث في استعادة لمواقف روس وأوروبيين وأميركيين خلال الثورات الاشتراكية، ويتذكرون اندراج مثقفين مشهورين في جبهة الدفاع عن الجمهورية الإسبانية أمام هجمة كتائب فرانكو الفاشية التي ما لبثت أن حققت انتصار الشر على الخير، وإن كان المثقف اليساري لا يعبأ بهذين المفهومين الطوباويين. لسنا في زمن فرانكو ولا هتلر ولا قيصر آل رومانوف من قبلهما، فثورات الربيع العربي لم تقدها، كما لم تشارك فيها بأحجام كبرى، أحزاب حديثة أو مثقفون حداثيون، وحين انتصرت أعطت قطافها الى جماعات كالإخوان والسلفيين هي، في الأصل، الخصم الإيديولوجي للحداثة بأحزابها ومثقفيها المستقلين. وما يحصل في العالم العربي أشبه بانتقام من عصر النهضة والدولة الحديثة التي سلمت قيادها، طوعاً أو بالإكراه، الى عسكريين ريفيي الأصول متحالفين مع رجال أعمال فاسدين. مضى على ثورات «الربيع العربي» سنة وبعض السنة، والمطلوب من المثقفين، بمقارباتهم المتنوعة، المزيد من الانحياز الى عامة الناس في وجه الطغيان، ومن النقد الشجاع المعلن، لتصويب مسار ثورات تكاد تسقط في عصبيات تتخفى بالدين. ولننتبه جيداً الى المشرق العربي، فهو مهدد بالتمييز العنصري (الديني والطائفي والاثني) وإقامة الأبارتايد على رقعه الجغرافية والبشرية، بعد إعلان وفاة دوله الحديثة التي أقيمت بعد الحرب العالمية الأولى. الثلثاء 23/10/2012: وديع سعادة كتاب شعر جديد لوديع سعادة يضم مجموعتين: «قل للعابر أن يعود نسي هنا ظله» و «من أخذ النظرة التي تركتها أمام الباب؟». (صدر عن دار نلسن في لبنان والسويد). قصائد نثر ذات أجسام، لأن القصيدة بلا جسم مجرد شذرات لا تندغم بالشعرية. ربما تكون حكمة، تكثيفاً لمشهد أو لتجربة، وربما مفارقة لا تعدو كونها مفارقة. تتقدم قصيدة وديع سعادة جسماً درامياً، أحياناً وصفياً مشهدياً، لكنه دائماً يحتوي اللغة والصورة والحركة والإيحاء. قصيدة تخلق نفسها ولا تستعيرها من مرآة. ويغلب السفر على المجموعتين، السفر احتجاجاً بلا بطاقة ولا وجهة مسبقة، يطلب الشاعر من جاك كيرواك ما عجز عنه الروائي الأميركي المحتج، أن يدله الى طريق بلا إشارات ولا أسماء. كما يطلب من سركون بولص (الشاعر العراقي) وبسام حجار (الشاعر اللبناني) ان يصعدا معه الى القطار الأخير قبل أن يفوت الوقت. يتدثر برداء سركون وينتعش بترابه المبلل بكأس بسام. لكن وجهة القطار مجرد احتمال «قد نذهب في نزهة. قد نرى ذلك النبع الذي حلمنا به طويلاً ينبثق من المياه الجوفية لأحلامنا». قصائد رحلة الى لا مكان، فالرحلة نفسها هي المقصد: أن نعبر العالم ويعبر هو فينا. هنا الشاعر يقدم وحدة الوجود من حيث يتلمس تفاصيله. الشاعر الحلولي من دون أن يفلسف ذلك، يكتفي بالمفارقة، لعبته الأثيرة وعينه وحساسية وجدانه، مفارقة الأشياء في تحولها قبل أن تبدأ، أي قبل أن تنتهي، سواء بسواء. الأشياء كلها، حركتها من دون أن تتحرك، أشياء الطبيعة والحيوان والحشرات ومصنوعات البشر، والماء القليل والغيم قبل أن يسيل والماء الغامر. لكن وديع سعادة المحتج من أول قصيدة كتبها الى كتابه الجديد هذا، يبقى لسبب ما، لعله تراب قريته وشجرها والقراءات والأحلام الأولى، لعله لبنانية خاصة به منفتحة، يبقى محتفظاً بجذر جبراني (من جبران خليل جبران) لا يخفى، نجده أكثر ما نجده في قصيدة «الطريق»، فاتحة المجموعتين، ومنها هذه المقاطع: «كان في العاصفة. مقتلعاً مخلّعاً مشلّعاً. رأسه في مكان، يده في مكان، قلبه في مكان، وعبثاً حاول جمع أعضائه(...) الذي بلا اسم كان في العاصفة وكانت ترتطم به طيور ميتة تحملها الرياح وغصونٌ متكسرة وجمعٌ مرتجف لا يعرفه(...) لم يكن هو السيّد، لم يكن هو المصطفى. كان المرتجف مثلهم في الريح. وبالكاد خرج منه صوت: «ما جئتُ لأكمل ولا جئتُ لأنقض، بل أنا النقصان والأنقاض والنقيض». وضيَّع صوته، ولم يبحث عنه، ولا بحث عنه أحد(...) وضعَ يده في النبع ورشَّ ماء على وجهه. رشّ غيماً، رشّ سماء. وضاع وجهه في الفضاء وانتظر نقطة، كي تعيد وجهه اليه. ثمة أكثر من وجه في الغيمة. ثمة أكثر من غيمة في الوجه. وحاول أن يرى(...) إنه هناك، في الدخان الذي يراه في البعيد. ولا شك معه أيضاً ناسٌ هناك. فالناس ليسوا هنا وهو ليس هنا. فأين يكون وأين يكونون إن لم يكن هناك؟ ولكن، أين الهناك؟ (...) صُبّ التراب في شرايينك واخترع قدماً. صُبّ تراباً واخترع شجراً ورقصاً. صُبَّ تراباً. فإن ترمَّد الشجر، قد تبزغ نبتة من ترابك. قد تبزغ شجرة. وإن خلوت من شريط غناء، قد يأتي عصفور يحطُّ عليها، ويغني (...). لا تلفظ الكلمة الأخيرة، لا تقل الكلمة التي في آخر الطريق. قد يسمعها أحد في أول الطريق ولا يعود يمشي. وإذ تطوي الطريق وتضعها في جيبك، تيقّن أن لا أحد ماشٍ عليها. هكذا يخف حملك. وهكذا لا تزعج الماشين. وإن أردت رفيقاً، فأي رفيق أعزُّ من وحدتك؟ أمشِ على الكلام. امشِ على اللهاث الذي يخرج من فمك. وسترى في لهاثك طريقاً، وشجراً أيضاً». الأربعاء 24/10/2012: شاشة لبنان الآلام الساخنة تفقد حرارتها بالتكرار، جرح الجسد يتحول جرح شجرة، والألم لصاحبه، لا نرى دموعه ولا نسمع الأنين. الحروب حين تتكرر حرفاً حرفاً ورصاصة رصاصة، تفقد أهدافها، إن كانت لها أهداف. حروب باردة وسخيفة، مثل أن تتحرك حول نفسك حتى الدوار، دوارك وحدك، والناس يكملون طريقهم. هذا الذي يحدث في لبنان إغماءة مصطنعة لرجل يطلب عطفاً ليستدرج مقاتلين ولا أحد يرغب. فلنستورد، كعادتنا، من خدم للمنازل الى قتلة على الحواجز، الى صارخين تحريماً وتحليلاً. كأننا أمام فيلم بالأبيض والأسود، نجبر على مشاهدته للمرة الألف لنرى أنفسنا بين أبطاله، عندما كانت فتوتنا وكانت الحماسة. حرب على الشاشة أكثر مما في الواقع. ثمة فجوة بين اللبنانيين وأهل السياسة، صار الحكام والمعارضون يشبهون أسلافهم على باب المندوب السامي، حين كانت فرنسا منتدبة تكتب لنا القوانين وترغب في أن نتشبه بها. حرب على الشاشة في لبنان، يخرج الأبطال من التلفزيون ويقلبون طاولة السهرة. آخر فنجان قهوة، أعزّ فنجان هذه الليلة، حرموني إياه، أبطال التلفزيون المستوردون.