بقاء حكومة الرئيس نجيب ميقاتي أو رحيلها ليس هو الحل أو الجواب على اغتيال اللواء وسام الحسن. القرار في هذا الشأن ليس مرتبطاً بتوازنات داخلية بين قوى 14 آذار وقوى 8 آذار فحسب. بل بات رهناً بتوازنات وحسابات أوسع، إقليمية ودولية. فالحكومة اللبنانية بتكويناتها المتنافرة وعجزها المقيم والقوى المناهضة لها تنتظر فتح «الطريق المسدود» في الأزمة السورية. ميزان القوى المشدود في لبنان على وتر الحرب الدائرة خلف الحدود لن يتبدل بيسر، سواء واصلت الحكومة تسيير الأعمال الروتينية أو رحلت. لم يعد مصيرها مرتبطاً برغبة رئيسها أو برغبة القوى المنضوية فيها أو تلك التي تطالب باستقالتها. وثمة مخاوف أن تؤدي الإستقالة إلى عجز اللبنانيين عن تشكيل وزارة بديلة في ظل إنقسامهم العمودي حيال موقع بلدهم في الصراع الدائر في الإقليم. عندها ستظل الحكومة الحالية تمارس تصريف الأعمال، كما هي حالها اليوم و»تنأى بالنفس» عن كل شيء. فيما يستمر الجمود والاهتراء اللذان قد يعطلان كل المؤسسات والمرافق... فلا قانون انتخابات ولا انتخابات! الطريق الوحيد المفتوح أمام القوى اللبنانية المتناحرة يقود إلى رفع وتيرة الشحن المذهبي، وإلى مزيد من «الإنخراط» في الأزمة المجاورة. فأولئك الذين حذروا من امتداد نيران الحرب السورية لم يكونوا يقرأون في كتاب جديد أو مجهول. يعرفون أن بعض الدواعي التي دفعت الرئيس حافظ الأسد إلى التدخل في لبنان لوقف حروبه كان منع انتقال النار إلى بلاده. كان التدخل بتوافق عربي - دولي. ولا حاجة إلى التذكير بما آل إليه لاحقاً هذا التدخل من تزكية لهذه الحروب وتقطيع أوصال «الشقيق الأصغر» خدمة لمصالح وأطماع وطموحات. ولا حاجة أيضاً إلى التذكير بكل «التدخلات» الإقليمية الأخرى في لبنان. لم تتغير القاعدة اليوم ولن تتغير: أن تستعر حرب أهلية في قلب الشرق الأوسط وتدوم يعني أن دول هذا الشرق لن تكون بمنأى عن نيرانها. وهذا ما فسر ويفسر اعتماد حكومة ميقاتي منذ اليوم الأول نهج سياسة «النأي بالنفس». إنه عنوان الاستقالة من السياسة، في الخارج والداخل أيضاً. لذلك لا يملك أهل هذه الحكومة ورعاتها بديلاً من التمسك بها، مثلما لا يجد خصومها بديلاً من المطالبة برحيلها! «النأي بالنفس» لم يقتصر على لبنان. فالاستقالة من السياسة بمعناها الوطني الجامع باتت نهجاً في كل من الأردن والعراق، وفي تركيا إلى حد ما حيث عاد حزب العمال الكردستاني إلى إشعال ناره فيما يستعر غضب علويي إقليم هاتاي ضد آلاف اللاجئين السوريين من أهل السنة. بات غياب السياسة في كل من بغداد وعمان شبيهاً بما هو قائم رسمياً في بيروت. يستشعر الرسميون في العواصم الثلاث حرارة الحرب المندفعة من وراء الحدود، فيما القوى والأحزاب تخوض معركتها بمزيد من الإنخراط كلما طال أمد الأزمة في سورية... تأكيداً لحقائق الجغرافيا والتاريخ، فلا حرب أهلية في سورية يمكن حصرها ووقف تمددها إلى كل الجوار. وتأكيداً لمعطيات طارئة تعزز هذه الحقائق أيضاً وعلى رأسها الصراع الدائر بين إيرانوالولاياتالمتحدة في الشرق الأوسط. لذلك يبدو مستحيلاً، أو صعباً إلى حد الاستحالة، دفع حكومة نوري المالكي إلى الرحيل. ويبدو محفوفاً بالمخاطر ترحيل حكومة ميقاتي، ولا يجد الأردن مناصاً من تبديل حكوماته، مفضلاً أن يراوح مكانه بديلاً من المواجهة الواسعة في انتظار... فتح «الطريق المسدود» في سورية. التغيير الجوهري في البلدان الثلاثة يعني تغييراً في ميزان القوى الإقليمي والدولي في المنطقة. من هنا يصيب السيد وليد جنبلاط عندما يحمل على المجتمع الدولي وتقاعسه عن التحرك لتحقيق التغيير في دمشق. ويصيب عندما يتمسك بالحكومة القائمة التي يعرف أن لا قدرة على التغيير في الداخل ما لم يحدث التغيير في الإقليم. تماماً كما يعرف الرئيس العراقي جلال طالباني أن لا بديل اليوم من نوري المالكي ما لم يقم توافق أو تفاهم جديد بين القوى الخارجية الفاعلة والمؤثرة في بغداد. واضح تماماً أن النظام في سورية يسعى إلى تحريك ميزان القوى القائم في الداخل عبر تغييره في الخارج. اتكأ منذ البداية على موقف روسيا والصين اللتين توفران له التغطية الدولية والحماية اللازمة. واتكأ ولا يزال على الدعم المطلق الذي تقدمه إيران. وإذا كانت المعارضة السورية المسلحة في الداخل تواصل التقدم على الأرض، وتنذره بالمزيد إذا تلقت أسلحة لا تزال محجوبة عنها، فإنه يسعى إلى فتح الطريق إلى دول الجوار لتصدير أزمته لعله يعجل في تأجيج الحرب الطائفية والمذهبية في المنطقة كلها. لم يفلح مع الأردن، وحاول ولن يكف عن المحاولة مع تركيا. أطلق يد حزب العمال الكردستاني على الحدود ولم يتردد في التحرش العسكري. وكذلك فعل ويفعل في لبنان حيث يراهن على توسيع المواجهة، لعل اغتيال اللواء الحسن يحقق ما أخفق في تحقيقه الوزير السابق ميشال سماحة. تباطأ الخصوم الدوليون للنظام السوري في التحرك الفاعل. الولاياتالمتحدة تبدو حتى الآن عاجزة عن المبادرة. فيما تتردد أوروبا كما لم تفعل من قبل، سواء إثر احتلال صدام حسين الكويت أو عندما اندلعت حروب البلقان. كانت حجة الأميركيين والأوروبيين ولا تزال الخوف من أن يؤدي التدخل الخارجي إلى مزيد من الفوضى وانتشارها في الإقليم كله، والخوف من البديل المجهول. دفن الرؤوس في الرمال لم يمنع خصومهم من التدخل السافر الذي صار ينذر بتعميم الفوضى في المنطقة، ويزيد في اهتراء الأوضاع في لبنان كما في العراق والأردن وتركيا. الإدارة الأميركية اختبأت حتى الآن خلف الفيتو الروسي - الصيني. وكذلك فعلت أوروبا. رفضتا التدخل في الأزمة السورية فيما خصومهما من موسكو إلى طهران يتدخلون علناً بلا حرج. هذا «النأي بالنفس» الدولي يعجل في الفوضى التي يخشون. وعجل في استدعاء مجموعات القوى الإسلامية المتشددة من كل مكان. ويعجل في امتداد النار إلى خارج الحدود. حتى بات البحث عن البديل أكثر صعوبة. وبات السعي إلى التدخل للحسم والتغيير أكثر مشقة، ورهناً بحسابات إقليمية ودولية معقدة. ولا يعتقد بأن تشبيه مفوضة الأممالمتحدة السامية لحقوق الإنسان نافي بيلاي الوضع في سورية بالحرب الطائفية التي اندلعت في البوسنة مطلع التسعينات سيدفع دول حلف «الناتو» إلى التدخل كما فعل في البوسنة من دون تفويض من مجلس الأمن. يبقى أن استعجال النظام في دمشق توريط جيرانه في حربه الأهلية ليس دليل قوة بقدر ما هو دليل ضعف وتراجع قد يتعاظمان إذا ما توافر لمعارضيه المدد من الأسلحة المطلوبة لمواجهة سلاحه الجوي. بل لعله بات يشعر بتضييق الخناق عليه وربما باقتراب أوان الحل السياسي، لذلك يسعى إلى استدراج مزيد من القوى إلى المواجهة لعله يستدعي حلفاءه إلى الطاولة للإستقواء بهم! اغتيال اللواء الحسن وجه ضربة قاسية إلى الهدنة الهشة التي كانت قائمة بين الفريقين اللبنانيين المتصارعين. أخل بقواعد اللعبة الداخلية. وإذا كان من حق قوى الرابع عشر من آذار أن تعلي الصوت وتطالب برحيل الحكومة التي انتزعت منها عشية اندلاع الأزمة السورية، وإذا كانت جريمة اغتيال أبرز القادة الأمنيين هدفها ليس الاقتصاص من دوره في حماية السلم الأهلي فحسب بل جر لبنان إلى صراع مذهبي، فحري بحلفاء سورية في بيروت أن يعيدوا النظر في حساباتهم ومواقفهم، ليتقدموا نحو شركائهم لئلا يقع البلد في فراغ سياسي يدفع إلى مزيد من الإنهيار والتقدم نحو النار السورية. وحري بالرئيس ميقاتي أن يبلور موقفاً أكثر وضوحاً، لا يستقيم التلميح إلى اتهام سورية والبقاء على رأس حكومة حلفائها. هل يستطيع الرئيس ميشال سليمان والسيد وليد جنبلاط إعادة تحريك «السياسة» بحثاً عن «اتفاق دوحة» جديد، عن هدنة تجنب لبنان حرباً أهلية فيقيم في منطقة انتظار آمنة إلى أن يحين التغيير الآتي في دمشق عاجلاً أم آجلاً؟