فيما كانت العاصمة اللبنانية بيروت تتفقد أضرارها وتنفض عنها غبار انفجار الاشرفية وزجاجه، وبينما كانت الطرقات مقطوعة بين مدن وبلدات عدة بإطارات مشتعلة ومستوعبات نفايات، بدت بتوراتيج، بلدة اللواء وسام الحسن الواقعة في منطقة الكورة الشمالية، هادئة لا يخرق صمتها إلا صوت قارئ القرآن ينبعث من المسجد عبر مكبر الصوت. يصطف الرجال داخل قاعة المسجد وأمام مدخله، فيما رجال الامن منتشرون عبر طرقات البلدة وأزقتها. البلدة الصغيرة القريبة من طرابلس، والتي يقتصر سكانها على آل الحسن، وضعت أمس على الخريطة بفعل اغتيال ابنها، فأمّتها وفود المعزّين من الأقرباء ووجهاء المنطقة والعشائر وسط تساؤلات عن امكان مشاركة وجوه بارزة من «14 آذار» او «تيار المستقبل» الذي ذيلت شعاره الازرق صور اللواء المعلقة عند مدخل البلدة. لكن تساؤلات المعزين ما لبثت أن هدأت قليلاً عندما وصل وفد من منسقية قوى 14 آذار مع بدايات بعد الظهر، لتعود وتهمس من جديد حول غياب نواب المنطقة. الشباب في البلدة منهمكون بتعليق صور فقيدهم على السيارات وأعمدة الكهرباء، فيما المختار احمد الحسن يوصي بكميات إضافية الى جانب قمصان تحمل صورة الشهيد. وقال المختار: «للأسف أننا في وداعه نعلق له الصور واللافتات، وهو الذي منعنا من أي مظاهر بهرجة واحتفال لدى تعيينه عميداً أو لدى تحقيقه انجازاً ما». زوجة أخ الحسن، التي وقفت تستقبل المعزّين في مجلس النساء، تحدثت عن لحظة سماعهم بالخبر. قالت: «كنت اشاهد التلفزيون واذا بخبر انفجار في الاشرفية. حاولت الاتصال به مراراً وكان الخط مقفلاً. قلت لنفسي ربما هي مشكلة الاتصالات بعد أي تفجير. وحاولت ان اتصل بزوجته في باريس فقالت إنها هي أيضاً لم تسمع منه ولم يجب على رسالة نصية ارسلتها اليه فور سماعها بالخبر». وتابعت السيدة بعد صمت: «نحن نعلم جيداً أنه بخطر وأنه مهدد وعرفنا أنها الطريق التي يمر بها ليتوجه الى مكتبه فتملّكنا الخوف لكن لم نتوقع الأسوأ... دائماً يحاول الانسان استبعاد الأسوأ». أما والدة الحسن ووالده الذي قارب الثمانين من عمره، فتبلغا فقدان ابنهما من شريط الأخبار العاجلة على شاشة التلفزيون. بقي الوالد للحظة الأخيرة متمسكاً ببارقة أمل مصدرها تأخر بعض الأقنية التلفزيونية تأكيد الخبر والاكتفاء بالقول إن أصغر أبنائه أصيب بجروح خطرة. لكن بارقة الأمل تلك انطفأت بعد دقائق قليلة مع ظهور خط أحمر عريض يؤكد الاغتيال. وبحسب زوجة أخ الحسن، لا تزال الوالدة تجهل أنه تم التعرف على ابنها من بقايا ساعة يده ومسدسه. وقالت: «لا نزال في حال صدمة. نقول لأنفسنا انه حلم مزعج نستفيق منه غداً ولا نتحدث في الامر. لا نعرف ماذا سنقول لها إن أرادت وداعه». ولم يلق اختيار مكان التشييع والدفن وهو الباحة الملاصقة لمسجد الأمين في وسط بيروت، حيث ضريح رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري، تأييداً بين افراد العائلة الضيقة وأبناء البلدة. فهؤلاء كانوا يفضلون أن يقام لابنهم تشييع في بلدته ويدفن فيها، لكنهم رضخوا للأمر الواقع ولفكرة ان الحسن «اغتيل لما حققه من انجازات وطنية، وهو ما عاد ملك عائلته فقط» كما راحوا يرددون. وإذ رفضت البلدة المشاركة في اي تحرك خارج اطار التشييع الرسمي، عبّر شبابها عن رفضهم لما يحدث من قطع طرقات وإشعال اطارات ومظاهر تسلح. وقال احد الشباب فضّل عدم ذكر اسمه: «نتفهم غضب الشارع، خصوصاً أن فقيدنا شخصية عامة، لكن نحن لا نقطع الطرقات، فاللواء نفسه لم يكن ليقبل بهذه الأفعال، لذا لا نتبنى أي تصرف من هذا النوع ولا نؤيده». طرابلس والمسلحون والواقع ان هذا النداء لم يصل إلى ابعد من حدود البلدة نفسها، ففي طرابلس التي شهدت حال إغلاق تام للمحال التجارية، ظهر المسلحون بكامل عتادهم العسكري عند مداخل المدينة وبعض مفترقاتها. وإذ بدأت ساحة النور ومتفرعاتها القريبة تستعيد شيئاً من حركة المارة والسيارات عند نهاية بعد الظهر، بدت آثار الاطارات المحترقة ومستوعبات النفايات المتروكة عند جوانب الطرقات كأنها تنذر بجولة أخرى لن تتأخر. وفي منطقة ابي سمرا حيث اندلعت ليلاً اشتباكات بين عناصر من حركة «التوحيد» ومجموعة اسلامية ادت الى مقتل الشيخ عبدالرزاق الاسمر، ساد هدوء حذر، هو نفسه خيّم على شارع سورية الذي يفصل محلة التبانة عن جبل محسن. فهنا، لا آثار لغضب يعبر عن نفسه بحرق اطارات وإنما غضب يخرج مباشرة من خلف المتاريس وفوّهات البنادق. الطرقات خالية تماماً، ولا وجود للأمن أو للجيش. المكان متروك كلياً لشبان يحرسون نواصي الطرق، فيحولونها محاور قتال عند أول احتكاك. صورة باتت تقليدية عن تلك المنطقة المشتعلة، لكن جديدها هذه المرة رفع أعلام الثورة السورية الى جانب رايات سود خطت عليها عبارة «لا إله إلا الله».